الوتر السادس... فتحي الخريشا

 ★ الوَترُ السَّادِسُ ★ 

 إذ غنية يا فؤادي للبَحرِ فبالحرِيُّ أنْ تسمعَ إِنشَادهُ من عمِيق صاغِيَةٍ، كذا إذ مَا أرسلت من منطوقٍ لأينٍ من كائنٍ بوعي أو شئٍ صمُوتٍ كذا الحَريُّ تُصغي لإيقاعِهِ علىٰ مَا توهجَّ لعلنٍ أو خفُتَ لخفاءٍ من أيِّنٍ كان يَنبعُ وبأيِّ لغةٍ ما كانت.

 فيَا لأنغامِ المُوسِيقىٰ الشَّجيةِ كيف تهبُّ بين نطقِ صَوتٍ وصمتِ سكونٍ مع تقلباتِ فصلِ الخريفِ، وتجمعُ كلّ التناقضاتِ البَشرَانِيَّةِ في كأسِ خمرِهَا المعتقِ حتىٰ إذ مَا ٱنتشت النّفسُ من أريجِ أنْفاسِهَا ورحِيقِ دَنّهَا تقابلَ الجناحُ مع القيدِ على مَائِدَةِ الاِكْتِرَاثِ وتعانقت حرارةُ الحَيَاةِ مع برودةِ المَوْتِ، إِنّهَا عويلُ تذاؤبِ العواصفِ حين تشرعُ بقصفِهَا، تأوهاتُ مُكْوِّناتِ العناصرِ حين تصدمهَا الرَّياحُ العاتية وحسرةُ أشجانٍ حزينةٍ من ٱهتِياجِ الذكرياتِ التي تتطايرُ في أثيرِ طاوِيَةِ أقاصِي الفضَاءِ، وإنّهَا ألحانُ وداعِ الأحبَّةِ في محطاتِ الاِفْتِرَاقِ على سِكةِ لوَاعِجِ الأشجانِ حين يصفرُ القطار للرَّحِيلِ نحو الأفقِ المُلف بكثِيفِ الضَّبابِ، ومعزوفة التوغل في منعطفاتِ الشيخوخة حين يبطئُ الزّمنُ رقصاتهُ على إيقاعاتِ قرعِ الطُّبُولِ، وإنَّها أناشيدُ سمرِ الٱعتِكافِ وحُرُورةِ أنفاسِ مزمارِ الحِكْمَةِ من مثل سِرِّ ٱحتواش عناقيد الكرومِ لجرارِ النبيذ لتتخمَّر شرابًا يقوىٰ الأجساد والأرواح حين تحاصرها الرِّيَاحُ والأمطارُ والثلوجُ على شظفِ شُهُورِ الاِعْتِزالِ والحِصَار، وكذا تصير الحرارةُ والظلالُ على الأثمارِ التي نشرت في دفءِ ضِياءَاتِ الشَّمْسِ لتجفيفٍ لتكون غذاءً نافعا في أهراءِ التخزينِ لشتاءٍ طويلٍ، وتتجلىٰ بقوّةِ عزفها لَمّا تعوي الذئابُ في البَرَارِي وتزأر الأُسُودُ في الغاباتِ  وإذ مَا نهِيمَتِ الأفْيَالُ في السُّهُولِ، وكذا لمَّا العواصفُ بهجيجِهَا تقصفُ بدوي الرُّعُود وتلقي البُرُوق صواعقها لمعانا يخطفُ الأبصَارَ بتأمُّلٍ مهيبٍ يفيضُ بخواطرٍ تتقافزُ من ذهولٍ على أوتارِ الاِنْبِهَارِ، وتتميلُ إيقاعاتِهَا مع أرجوحةِ العواصفِ التي تتقدمها طوارقُ الطبُولِ على الأشجارِ مبعثرة أوراقهَا ومهزعة أغصانها، ومن الأشجارِ قدّامها لا تثبت لاِقتِلَاعٍ من الجُذورِ فليس لهَا وللأشيَاءِ التي عليها غزارةُ المطْيِرَةِ إلّا أنْ تصمد لتوالي هجماتها ولو إلى حين إذ الطوباءُ للذين على بِسَاطِ المَحقلةِ بالرَّاسِخة، فلا قهقرىٰ لغائِصة ولا ٱنفلات لتهويمٍ.

 ألآ إنّهَا المُوسِيقىٰ إذ ما ٱنبعثت من أوتارِ الحُزنِ تثير العواطف من كوامنِ حنينِ النّفوسِ لبلوغِ كلّ مرادٍ إليهِ تهفو بشهقةِ الأنِينِ، وتبعثُ في ثنايَا الزّفرةِ العابِرَةُ قصبةَ النّاي رثاءً من هدوءٍ يطوي بسكونٍ مَهِيبٍ ضبابَ الأفقِ البعيدِ، وكذا تنفخُ ثائِرَاتِ غضبٍ بلوعةِ أسَىٰ من هَمِّ حسراتٍ ومن شجوِ نشيجٍ يَطلبُ الخلاص وإنْ من حُرقة ألمِ لٱمْتِطاءِ شراع الرَّحِيل.

 ومَا المُوسِيقىٰ بأرتفاع تجليها إلّا ورَفِيقة رشات القطرِ وإنهمال المطرِ إذ تبدو لعَيْنٍ كمَا الدّمُوعُ الهتونُ فوق وَجهِ الأرضِ وكذا من مزنِهَا كمَا رحيقُ الزُّهُورِ لأقراصِ المعسلةِ.

 ألآ إنّهَا مسرّةُ ٱقتراب أفئدة قلوبِ النَّاسِ من بعضِهَا لألفةِ وِئامٍ بعد ٱنطلاقاتِهَا من أقبيةِ الأسرِ تطلبُ الأمانَ والدِّفءَ كمَا عودةُ الطيور إلى مهجعِ أعشاشِهَا حين يرخي الليلُ سُدُولهُ على أهدابِ صَحوةِ النَّفْسِ، إنّها فرحة وِلادةِ مُهَج الأكبادِ من عطايا بذرة وما تفلّقَ مِنهَا من إزْهَارٍ وحزنُ الوداعِ حين يُلقي المَوتُ شباكهُ على ثمارِ الحيَاةِ، إنَّها قائمة لا تهدأ أنغامُهَا إذ تمشي في الفُصُولِ وتسرِي فينا وتسير حوالينا ولهَا تنوعُ حركاتِ أداءٍ في كافةِ مراحلِ أعمارنا بين مُتغيرٍ يَهرمُ وثابتٍ لا يَشيخُ. 

 إنَّ تسَابِيحَ المُوسِيقىٰ المُنبَثقة من مُهْجَةِ الجَمَالِ تُضِيفُ لِخلوةِ الإنسَانِ بعدًا رُوحيًّا يَستنطقُ الذاتَ للّبِّ سِرِّهَا بين يديهِ بلا أقنعةِ حُجُبٍ عليهَا وبلا ٱرتحال عنهُ لِطياتِ الظلامِ، وإنّهَا تسابيحُ نضارةِ نسمتِهِ التي تختزلُ المَسَافاتِ التي تفصلهُ عن الأنوارِ ويْكأنَّهُ لا سيرًا على الأرضِ بأقدمٍ بلْ فوقهَا بأجْنِحة عُبُورٍ، تمسحُ الدَّمْعَة المُتكورة على جفنِهِ وتزيلُ عن وِحدتِهِ الكآبة لا الحزن، لأنَّ من الحزن مَا يتجلّىٰ روعة رُوَاءٍ في فائِقِ الجَمَالِ، وكذا تُسرعُ تكميل وَعي ذاتِهِ قدّام في الإدراكِ والفهْم نحو شاهِقِ البُلوغِ، إنَّهَا تنقلهُ مِن السَّذاجةِ على الشّطحةِ إلى الفِطنةِ السَّابِرَة أعماقَ كلِّ بَحرٍ عمِيقٍ وأفقٍ بعيدٍ، ترفعهُ من الدُّونِيَّة بَيْن القطِيعِ على الأثرِ إلى التَّفردِ في الأعالي حيث الأجْنِحة والنُّور، إنّهَا تُأزرهُ في صُعُودِهِ على سُلّمِ الٱرْتِقاءِ لبلوغِ مكين مقامِهِ الثمِينِ، هنالك لإناخة أحماله حيث رابيتهُ فوق التلالِ ليصير لهُ أنْ ينظر الأشياء وَاضحة من شمولِيَّةِ وَعي تتوقّدُ بنُورِ البَصِيرةِ الوهَّاجِ، وإنّهَا إنْ يكُن مِنَ الصَّادِقِينَ الأمناءِ تدخلهُ في مواكبِ الخلاصِ لحقيقةِ وُجُودِهِ الثمِينِ بقوَّةِ نبضِ أنغامِهَا لعمقِ زاهرةِ الحيَاةِ، عوالمٌ مَلكُوتِيَّة تزخرُ بالجَمالِ والكمَالِ يَعرجُ إليهَا لا بأمتطاءِ خبلة أخيلةٍ من أوهامِ عُرُوجٍ بل تكورًا تلك العوالمُ تتكورُ من أبلجِ وَاقعٍ بين يديهِ بأفياضِ الضِّيَاءِ.

 إِنَّ المُوسِيقىٰ إعلانٌ عميقٌ لكُلِّ إبداعِ وُجُودٍ، أصواتٌ اِسْتنطقتهَا الإيقاعات التي ٱنبثقت منهَا جَمَالا يُحاكي لبَّهَا لِمَا حواليها من ألبابِ جَمَالٍ، إنّهَا بَهِيُ نضَارةُ كينونةٍ في بَاهرِ كينونةِ الحيَاةِ وشاسعُ ٱمتدادٍ في رَحْبِ ٱمتدادِ الوُجُودِ القائِمِ في إبداعِ مرايا الخِيلانِ ومتسعِ مدِيدِ الأكوانِ، تنهلُ من أزليَّةِ ذاتِهَا إيقاع نُهُوضهَا من السَّباتِ المُضطجعِ على فِراشِ العدمِ بقُدرتِهَا على الٱنْبِثاقِ من مُطبقِ الصَّمْتِ لألحانِ خُلودِهَا فوق كلِّ عُنْصرٍ تتراقصُ فيهِ حركةٌ في مَسَارٍ مُتقدمٍ أو مُرتدٍ، إِنّهَا مُمتلِئة بقوّةِ النّشَاطِ وتفيضُ رقة أنغامًا كمثلِ الزَّهرةِ النّضِيرةِ الرَّاقِصَةِ مع نسمَاتِ حفِيفِ الرِّيَاحِ على أوتارِ ٱشتِعَالاتِ أشواق العشقِ والمُرسلة لمَشامِ الشَّغفِ فوْحَ شذاها الذّكِي في الأثِيرِ النَّاعِمِ اللّطِيف.

 إِنّ الإنسانَ ومنذ القدم يبحثُ عن أدواتٍ يجسدُ فيهَا نفسَهُ، فلم يجد مثل المُوسِيقىٰ أنْ يحلَّ فيهَا مُجسدٌ أفكارَهُ وميولهُ وعواطفهُ، إنَّ الإيقاعات التي يصدرها على الطبلِ أو الدَّفِّ مربوطة بأطرافِ أصابعِهِ إذ تتغذىٰ النغماتُ من دمائِهِ كالجنين في بطنِ أمّهِ الموصُول بالحبْلِ السِّرِيّ، والأوتارُ التي تصدرُ الأنغامَ مشدودةً بأورِدَةِ قلبِهِ كالشَّجرةِ ثمارهَا في أعاليها متصلة بجُذورِهَا، والألحانُ التي تنبثقُ من النّاي هي الهواءُ المُلتهبُ الهابط الصَّاعدُ والمنطلقُ من أنفاسٍ مُبدعةٍ تمتزجُ بأحْاسِيسِ وشُعُورِ وعَوَاطِفِ ذلك المُبدع وتعبيرات آرائِهِ المُزهرة في وَعيهِ فراديسِ الحُسَّانِ، إنّها طموحُهُ أنْ تصير ثمارًا مشتهاهً على الطّبقِ الذي يقدمهُ من عصارةِ رُوحه إلى النّاسِ، إذ تصير فرحتهُ عظيمة حين تعانقها الأسْمَاعُ الصَّاغِيَة للحُسنِ، والأرواحُ مجنحة في شدوِ أنغامِهَا وكذا النفوسُ فيهاهائمة بأخيلةِ قسَامَةِ الفتونِ، ومشدودة لهَا القلوبُ برَنِينِ الشّوقِ للهفةِ الٱحْتِضَانِ، والعُقولُ حائرة في بَهاءِ جَمَالِ ٱنبثاقاتِهَا المُتآلفة في عقدِ الإبداعِ قبل أنْ تشرع فيهِا الإبْحَار، كالأيدي التي تمتدُ إلى طبقِ الثمَارِ متلذذتها العُيُون قبل الأفواه. 

 هي المُوسِيقىٰ عالمٌ مترامِيُ الأطرافِ كلمَّا بلغت أفقا ظهرَ في بُعدِ مَرمىٰ البَصرِ أفقا يُغريك الولوج إليها، وهل للمُتشوف إليها بالشَّوقِ إلّا لمزيدِ إبصارِ إبداعاتٍ صنو كلِّ صَيادٍ على شبكتِهِ ومُنقبٍ عن كُلٍّ ثمِين، ظامئة النّفسُ في فتونٍ لِسِحرها دون ٱرْتِواء، مثل الجسد كُلمَّا ٱرتشف المياهَ ليروي عطشهُ مَا يلبث وأنْ يعاودهُ الظمأ يحدوهُ للٱرْتِوَاءِ، وهكذا دواليكم تسيرُ قواربُ النّفسِ وأشرعة الرُّوحِ مبحرةً ومُحلقة لعالمِ المُوسيقىٰ دون ردةٍ عنهَا أو عودةٍ لٱنْكِفَاءٍ.

 ٱعملوا يا أيُّهَا النّاسُ أنْ ترضِعُوا أطفالكُم المُوسيقىٰ وهُمْ في مُهُودِ أوَّل نشأتِهِمْ أطفالا، ولكن لا تفطِمُوهُمْ عنهَا أبدا، ذلك ليشبُّوا أكثرَ قوَّةٍ وثبَاتَ نفسٍ وٱكتمالَ رُوحٍ، بالحرِيُّ قبل أنْ يَشبُّوا عَنِ الطوقِ أنْ تجلِبُوا لهُمْ أدواتٍ موسيقيَّة لكلٍّ حسب ميولهُ، والأجدرُ أنْ تصير مَادّة أساسِيَّة من مناهجِهِمْ الدَّراسِيَّة، ذلك لأنَّ في المُوسِيقىٰ نمو ملكاتٍ كثيرةٍ تصقلُ جَوْهَرةَ أنفسِهِمْ وتنعشهَا بتأثيراتِ قوىٰ الجَمَالِ المُتدفقةِ من ٱهْتِزازتِهَا لِكُلِّ هِمَّةِ نشاطِيَّةٍ على دربِ المَهَارةِ والإبداع، وتطلقُ أنغامُهَا في ذواتِهِمْ مَحبَّةَ النّاسِ وعشقَ رونقِ كلِّ إشراقٍ، تجمعهُم معًا في ثقةِ ٱجْتِمَاعٍ وصَفاءِ مَودَّةٍ بتآلفِ ٱنْسِجَامٍ لخير أرفادٍ، وكذا تنيرُ قدّامهم سُبُلَ كلِّ إبداعٍ.

 ألآ هي المُوسِيقىٰ سِعة للخيَالِ وتنوير للعقلِ، إنَّها غذاءُ النّفسِ وأنْسُ الأرْوَاح. 

            من كتاب الموسيقىٰ لمؤلفه :

         المهندس أبو أكبر فتحي الخريشا 

                            ( آدم )

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

ماللوطن... عبد الرزاق سعدة

من بين الامي..علي اسماعيل الزراعي

خذني اليك... علي اسماعيل الزراعي