ثالوث الهدم والدمار... صخر العزة

 ثــالــوث الهدم  والــدمــار

إن الله عز زجل عندما خلق الكون وخلق الإنسان وسخَّرَ كل شيءٍ لخدمته من حيوانٍ أو جماد ، فكُلُّ شيء له١ قيمته قدمه للإنسان للإستفادة منه ولكي ييُسِّرَ أمور حياته ، فلم يخلق الله شيئاً غيرُ نافعٍ أو ضارٍ للإنسان فكل ما خلقهُ الله على هذه البسيطة هو خيرٌ وفيه صلاحٌ وفائدةٌ للإنسان ؛ والإنسان نفسه خلقه الله بنفس لا تحمل أي شوائب ، ولكن النفس البشرية تتطبع حسب مجريات الحياة وطبيعة النفس من ميولها للخير أو الشر وقال تعالى : ( إنا هديناهُ السبيل إما شاكراً وإما كفورا ) وأيضاً قال تعالى : ( وهديناه النجدين ) وهذا عائد للإنسان وما تسولهُ نفسه له  ، ففي الكون نجد الأحجار الكريمة والمعادن النفيسة التي نستخرجها من الطبيعة وهي معادن حباها الله هذه الصفة ، ولكن عندما ترى أحجاراً مُقلدةً أو ذهباً أو أموالاً مزيفةً فهي نتاج نفسٍ أمارةٍ بالسوء ، ولكن كلَّ شيء زائفٍ في الحياة لا بُدَّ له أن ينكشف ولو بعد حين ويظهر على حقيقته ، وهذا ينعكس على صفات النفس وطبائعها ، ولعل من أسوأ الصفات وأقبحها في الإنسان هي ذلك الثالوث المدمر والهادم  لأي مجتمع إذا استشرت فيه ألا وهي ثلاث صفات : الكذب والنفاق والرياء . 

إن من أسوأ الآفات على المجتمعات والتي تنخر في جسد أي أُمة  وتكون من عوامل دمارها وانحطاطها هذه الصفات الكريهة ، فالكذب هو أول عامل هدمٍ ودمار ورأس الخطايا وشرُّ الأمور بين الناس وباقي العوامل من نتاجه  وهو يتمثل بسرد الأكاذيب والأقاويل ، واختلاق القصص المُلفقة التي لا صحة لها وذلك لغاية في نفس يعقوب حيث يكون وراءها مصلحةٌ ذاتيةٌ لهدف إما ماديٍ أو إجتماعي أو نفسي وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :  ( عليكم بالصدق ، فإنَّ الصدق يهدي إلى البِر ، وإن البر يهدي إلى الجنة ، وما يزال الرجل يصدُقُ ويتحرى الصدق حتى يُكتبَ عند الله صدِّيقاً ، وإياكم والكذب ، فإن الكذب يهدي إلى الفجور ، وإن الفجور يهدي إلى النار ، وما يزالُ الرجل يكذبُ ويتحرى الكذب حتى يُكتبَ عند الله كذاباً ) ، وقد قال الله تعالى في ذلك : ( إن الله لا يهدي من هو مسرفٌ كذاب ) ، ولن ننسى أشهر قصص الكذب في التاريخ ألا وهي قصة إخوة يوسف عندما ادعوا أمام أبيهم يعقوب عليه السلام أن الذئب قد أكلَ أخاهم يوسف عليه السلام وظهر هذا في قوله تعالى : ( وجاؤوا على قميصهٍ بدمٍ كذب ) ولكن في النهاية انكشفت الحقيقة ، فحبلُ الكذب قصير مهما طال والصدقُ منجاة من كل شر ومفتاحٌ لكل خير ، أما تزييف الحقائق وعدم قول الصدق فعواقبه وخيمة تؤدي إلى الكثير من الأضرار في المجتمع ، ونرى من صور الكذب البشعة والتي تعاني منها المجتمعات جشع بعض التجار الذين يكذبون في تجارتهم من أجل أن يبيعوا بضاعةٍ  قد تكون انتهت مدة صلاحيتها وتكون تالفة ولا تستحق الثمن المعروض لها ، أو عمل عروض خصومات غير حقيقية يكون الهدف منها الكسب غير المشروع ، أو ترى طبيباً يُتاجر بمريضه ويكذب عليه من أجل منفعته الخاصة أوالمهندس أو المقاول الذي يغشُّ في عمله وكل ذلك من أجل مصالحهم الذاتية ويتجردوا من إنسانيتهم ، قال تعالى : ( ويلٌ للمطففين الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون وإذا كالوهم أو وزنوهم يُخسرون ) وهؤلاء وعدهم الله بعذاب شديد لمن يبخسون في المكيال والميزان ، ومن صفات الكذب الأخرى النميمة والتي تبُثُّ الفتن في الأسر والمجتمعات بنشر الكذب والفساد بين الناس  وتؤدي إلى الخراب والدمار بما يتناقل من أخبار ملفقة وكاذبة لأهداف آنية ودنيئة ، وقال تعالى : ( همَّازٍ مشَّاءٍ بنميم ، منَّاعٍ للخيرٍ مُعتدٍ أثيم ) 

وقد درجت العادة في شهر نيسان من كل عام على اختلاق كذبة أسموها كذبة نيسان على أنها كذبة أبيض من أجل المداعبة ، وهذا ليس من عاداتنا وتقاليدنا  ودخيلٌ علينا ، وليس هناك كذبٌ أبيض وكذبٌ اسود ، فالكذب مرفوض مهما كانت الدوافع ، والقيام باختلاق الكذب في هذا الشهر هو تقليدٌ للغرب وتشبهٍ بهم وبأفعالهم وهذا ما نهى عنه ديننا الحنيف وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك : ( من تشبه بقومٍ فهو منهم  ) ، وقد تؤدي بعض حالات الكذب من أجل الدُعابة وعلى سبيل المزاح إلى عواقب وخيمة ولا يحمدُ عُقباها 

ولا يكون الكذب مشروعاً إلا في حالة مصلحة تهمُّ الوطن من أجل خداع الأعداء كما حصل في غزوة الخندق عندما اتى نعيم بن مسعود الأشجعي إلى رسول الله صلى الله عليه وقال له : يا رسول الله ، لقد أسلمت ، ولا يعلم بإسلامي أيُّ أحدٍ من قومي ، فمُرني بما أردت فأجابه عليه الصلاة والسلام : ( إنما أنت فينا رحلٌ واحد فخذِّل عنا ما استطعت،  فإنَّ الحرب خدعة  ) فقام  بخداع   الأحزاب الثلاثة اليهود وقريش وقومه بني غطفان فأدخل الوهم في نفوسهم حتى تفرَّقَ جمعهم وردَّ كيدهم  وانتصر المسلمون بحيلته ،  وقد يكون الكذب أيضاً مشروعاً في حال إصلاح ذات البين .

ونأتي للعامل الثاني في هدم الأمم والمجتمعات وهو النفاق وهو إظهار الإنسان عكس باطنه ، ويظهرون عكس ما يخفون ، وهو من الآفات التي أصابت الإسلام بعد هجرة النبي إلى المدينة المنورة وزاد استفالحه بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم حيثُ ارتد بعض المسلمين ضعيفي الإيمان ، وكانوا يتظاهرون بالإسلام لغايةٍ في أنفسهم ومنها من أجل كسب الغنائم في الغزوات ، وقد كان على رأس المنافقين وأولهم مُسيلمة الكذاب الذي ادعى النبوة وقد قال الله تعالى في المنافقين :            ( المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف ويقبضون أيديهم نسُوا الله فنسيهم إن المنافقين هم الفاسقون ، وعد الله المنافقين والمنافقات والكفار نارجهنم خالدين فيها هي حسبهم ولعنهم الله ولهم عذابٌ مُقيم ) ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في أنواع النفاق  : ( أربعٌ من كُنَّ فيه كان منافقاً خالصاً ، ومن كانت خصلةٌ منهن فيه كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها : من إذا حدَّثَ كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا خاصم فجر ، وإذا عاهد غدر ) فدوافع النفاق هي التعلق بالحياة وحب الشهوات ، ومن أجل كسب مركزٍ أو مكانة على حساب غيره أحق منه ، وأخطر النفاق الذي يدفع إلى الفتن والشبهات .

أما العامل الثالث لهدم أو دمار المجتمعات فهو الرياء وهو أن يعمل الإنسان عملاً ليراه الناس ويكسب المديح والشكر عليه وليس إرضاءً لوجه الله ، فمن يُرد أن يعمل خيراً يعمله بدون التظاهر والمراءاة وكشف ستر الناس المحتاجين والمعوزين ، أو من أجل المباهاة بما أنعمه الله عليه من خير كتصوير مائدة طعامة وخاصة في شهر رمضان ونشرها على وسائل التواصل الإجتماعي ، دون أن يُراعي من يكونون محرومين من ذلك لضيق حالهم وعوزهم ، أو نشر صوره هو ويتصدق على عائلة محتاجة ، فأين هو بذلك من أخلاق الإسلام ، ومن صور المراءاة من يذهب للحج أو العمرة ويصور نفسه صوراً ذاتية بما يُسمى ( سيلفي ) فهل أنت ذاهبٌ للإستغفار والتخلص من الذنوب أم ذاهب من أجل أن يُكيل الناس المديح لك ، ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم  في المرائين في حديثٍ صحيحٍ للألباني في صحيح الجامع :

(إنَّ أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر ( الرياء ) ،   يقول الله عزَّ وجلْ يوم القيامة :  إذا جزى الناسُ بأعمالهم  إذهبوا إلى الذين  كنتم تُراؤون في الدنيا فانظروا هل تجدون عندهم جزاء ؟؟!!) ، ومن أوجه الرياء المجاملات الكاذبة ومدح شخص بشيء ليس فيه وذلك من أجل مصلحة ذاتية ترغب فيها كسب وُده .

إن هذا الثالوث المدمر الكذب والنفاق والرياء وما بها من صفات أخرى كريهة التي أوردتها في مقالي وباءٌ خطيرٌ ينهش جسدَ أي اُمةٍ ، ولا يُمكن التخلص منها إلا بعودتنا لديننا الذي يُنزهنا عن الموبقات التي تُفتت المجتمعات وتدمرها ، وعلينا عندما نقوم بأي عمل أن يكون خالصاً لوجه الله وليس من أجل منفعة دنيوية ، ولا يكون ذلك إلا باستشعارنا بمراقبة الله تعالى لنا في السر والعلن ، فالكذب ذُلٌ ومهانة لصاحبه والصدق يرفع قدر صاحبه ويُصبح موضع تقدير وهيبة عند الناس  فالدين هو المنزه للنفوس وهوالذي يُخلصنا من هذه الثالوث الهادم للقيم والأخلاق ودمار المجتمعات والدين  قبل أن يكون عبادات فهو أخلاق  ، وأجمل وصفٍ للكذب وكراهته ما قاله الشاعر : 

لا يكذبُ المرءُ إلا من مهانته                     أو عادة السوءِ أو من قلة الأدبِ

لبعضُ جيفةَ كلبٍ خيرُ رائحةٍ                     من كذبة المرءِ في جدٍ وفي لعبِ


صخر محمد حسين العزه

عمان – الأردن 

14/1/2022

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

ماللوطن... عبد الرزاق سعدة

من بين الامي..علي اسماعيل الزراعي

خذني اليك... علي اسماعيل الزراعي