مرارة الرحيل...حميد فيخار

 قصة قصيرة


 { مرارة الرحيل  }  


صوت أذان الفجر يمزِّقُ هدوء الليل بشكل موحش ! فيه رُعْب  يشرخ مسمعي كأمواج تلطم صخر البحر  ، لم أكن أرغب في سماع صوت القرآن  في هذا الوقت بالذات  ، أحسست حينها أن أمي سيحضنها الموت ويغيبها عني  في ليل دامس وحالِك ، هكذا ارتبط في مخيلتي منذ الصغر حين أخذ الموت والدي وأنا في حضنٍ طفولِيٍّ شديد التعلق بأبي !  كان فقيهُ المسجد يقرأ  القرآن بصوت مرتفع ويُمسك بسبابة  والدي من أجل التشهُد ، صورة بقيت  عالقة في ذاكرتي بكل ذاك الألم الذي تركه رحيل والدي وأنا أبكي في  فناء البيت بكاء شديدا  ...

كنت أتساءل حينها ألم يكن لأبي نصيب في الحياة لو عملنا على نقله إلى المستشفى أوإلى مصحة لا تطلب منا دفع الثمن !  تدمعُ عيناي  وأستحضر كلام أمي للتو  ( العين بصيرة واليد قصيرة ) ... لم نكن نملك شيئا ولا كان والدي يعمل عملا قارًّا بل كانت له حرفة الخياطة  يزاولها في ركن من أركان السوق الأسبوعي يتنقل على دراجته المتهالكة ولازلت أستحضر كذلك شكلها السُّريالي وأستحضر صُحبتي له الى السوق يُردفني معه كلما كنت في عطلة ...   فكثيرا مايحتاجني لتمريرالخيط عبر عين الإبرة  في آلة الخياطة ، تلك الآلة التي آنستنا طوال حياة والدي حتى باعتها  أمي  بعد مرضه بدافع الحاجة إلى شراء الدواء وتخفيف غصة الألم الليلي عنه ... 

الآن كيف لي ان أنام وأنينُ أُمي  السقيم  لا يهدأ بحشرجة بئيسة ترد صداها  أركان وجنبات  البيت ،  الموحش فيغازلها وهن ذاك الجسد النحيف الممتد على السرير ، يبدو المشهد قاتما مريبا ، كنتُ ولا زلت على هذا الحال منذ مايقارب السنة والنصف إلا أن هذا اليوم ليس كسابقيه من الأيام ، فالحنون أمي لم تعد تنطق بكلمة ابني ..  فقط تتابعني بعينين ذابلتين تنفخ أنفاسا تنبعث منها  رائحة الرحيل وعلى مقلتيها مسحة حزن لِحالي البئيس المغيب عن أي عمل من شأنه أن أساعدها في مصاريف الأدوية  .... فقط كنت أنتظر الصباح وها قد حل وما باليد من حيلة ؟  لا نملك شيئا في البيت يستحقُّ البيع لتغطية الحاجة والعوز  من متطلبات الحياة  ... أجلست أمي على كرسيها المتحرك بعد أن ألبستها ملابسها وهي في وضع سيّئ للغاية ، أشارت الي بسبابتها الى كوب الماء وحبة الدواء والتي اعتادت ان تأخذها كل صباح بعد أن أناولها الفطور وهو عبارة عن حساء ، لكنها الآن لم تسأل إلا عن حبة الدواء ولم تُعر أي اهتمام لشيء يسلك إلى معدتها ! 

هيأت نفسي للخروج والعودة بأي وسيلة نقل حتى تكون أمي في المستشفى وفي أقرب وقت ممكن لكن الحال بدأ يسوء وأصبحت والدتي في وضع لا تقوى على الحديث حينها صرخ الصمت في داخلي وسكنت أعصابي رعشة الخوف  حين كلمتني بالقول : لا حاجة لي بالطبيب فلا مرَدَّ لقدر الله  ، ياعمر .. لأول مرة أسمعها تناديني باسمي ولم تقل ولدي !!دنوتُ منها وأمسكت بيدها ثم ابتسمتْ  في وجهي بثغر شاحب بدا لونه يتعكر وبصعوبة تحررت من شفتيها كلمات جعلتني مشلولا لا أقوى على تصديق ما أسمعُه  :  

- اسمع يا .. يا عمر انا لستُ أمك وزوجي المرحوم لم يكن أبدا أباً لك  ، حينما تزُر قبره أدعُ له بالرحمة والغفران فقد كان فقير مال ولم يكن أبدا فقير مشاعر ، ربَّاك على قدِّ قدره ومقداره ،  فقد أبكاه يومًا حين وجدك ملفوفا في قماط عند باب المسجد بعد  صلاة الفجر وعاد الي بك محبورا ،  هذه الشهادة ياعمر كان زوجي  أوصاني أن أخبرك إياها .. فعارضت ما مرة  ان يخبرك هو بالحقيقة  ، والآن ها قد علمتَ  ! فلا تسألني من وضَعك على باب المسجد ! ولا تسألني من يكون أهلك  ! فلا أنا ولا المرحوم نعلمَا  بالحقيقة  ...

 أنا الآن على كرسي المرحومة من ربتني  ، بقولها للحقيقة صدمتني ، لما سمعت الخبر أُغمي علي  .. ولما فتحت عيني أخبروني  بوفاتها بعد حين  ،  رحم الله من ربياني ،  ونعم الأبوين لكنني مُقعدٌ حبيس البيت فمن وضعني ذات يوم على باب ذاك المسجد فليتفضل ...  لا لحاجة الا ليحمل نعشي ويصلي على رفاتي بعد الرحيل  ويدعو لمن ربياني بالجنة ولمن رماني على باب المسجد  بالغفران من رب العالمين  ... 


حميد عبدالقادر فيخار

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

ماللوطن... عبد الرزاق سعدة

سيد قلبي... ياس ياسمين

الحسود..خواطر بن قاقا