المخلص... فتحي الخريشا

 .                           ۞ المُخلِّص ۞

 امرأة في صوتها لهفة السُّؤال تسأل آدم قائلة:

 عَلمنا أيّهَا المُعلِمُ الحَكيمُ النّورانِيُّ مَنْ هُوَ المُخلص.

 حينئذ وبصوتٍ ذي وقارٍ على أجنحةِ رائِقِ أنفاسٍ يحدوها التأمُّلُ العميقُ للعزف على أوتار قيثارة السَّماءِ بموسيقىٰ روقة الصَّفاءِ قال آدم :

 مَا كَانَ لِأحَدِكُمْ أنْ يُخلصَ أحَد مِنْ قيدٍ لِيَدْرَأهُ فِي قُيُودٍ أخْرَىٰ، يَمْنحُهُ فضِيلةً أو بَعْضَ فَضَائِلٍ لِيُعَمِدهُ في مُسْتَنْقعٍ مِنْ الرَّذائِلِ، أفيُخرجهُ مِنْ ظَلْمَةٍ فوْقَ الأرْضِ لِيَزِجُّهُ في قَبْوٍ مَسْدُودٍ عَلْيَهِ تحت أدِيمِ التُّرَابِ، أَفيَأمُرُهُ بِالمَحَبَّةِ وهُوَ يَسْكُبُ في قَلْبِهِ قيْحَ الكَرَاهِيَّةِ عَلَى المُغايِرِينَ، أفيُقَدِمُ لَهُ كأسَ الحَيَاةِ بِطيب مَاءِ الوردِ وهُوَ مَازِجٌ فِيهِ السُّمِّ الزُّعَافِ، فمَا كَان لِأحَدِكُم أنْ يَسْتَيقظَ مِنْ حلْمٍ عَلَى حلمٍ آخَرٍ مدعيًا اليَقظة عَلَى حَقِّ الحَقِيْقَةِ إذْ يُخْرِجُ الَّذيْنَ أتَّبعُوهُ مِنْ غَفْلَةٍ أقلٍ أوْ أكثَر بِأضْغَاثِ أحْلَامٍ مضطربةٍ مُشَوَهةٍ، فلئِنْ كَانَ الجَسَدُ فانيًا فمَا أدراكمُوهَا الرُّوح إنْ لِفَنَاءٍ أو لِكَرةٍ أو كراتٍ، وَمَا أدْراكمُوهُ الكَوْنَ خلَّا مَا بَيْنَ أكمامِ العِلمِ إنْ بِأزهارٍ نَوْراءٍ أو بِرُؤوسِ أفَاعِي تفُحُ السُّمَّ والشَّرَّ، بَل كانَ الغويُّ وَمَنْ اتَّبَعُهُ ملأ الإفساد الغَّاوِينَ، ذلِكُم مَا لَيْسَ لهُم بِهِ حَقَّ مَعْرِفَةٍ إنَّمَا هُمْ عَلى الأمَاني يَظُنُون.

 إنَّ الَّذينَ أخذوا النَّاس إلى هياكلِ الأدْيَانِ ضَلُّوا وأضَلُّوا النّاسَ عن سَوَاء السَّبِيلِ لمسالكِ الوعثاءِ ولمهابِط الدَّجْنَاءِ، صِنْو الَّذِين ٱجْتَهَدُوا وَمَا كَان اِجْتِهَادُهُمْ إلَّا عَلَى زُيُوغِ الطَّرِيْقِ وخَلَّابِ السَّرَابِ ، وَهلِ التَّمَتْرُسُون فِي الأقليميَّةٍ أو القومِيَّةٍ إلَّا لِأمرَاضٍ وأدواءٍ تسْتَفْحِلُ في القُلُوبِ إذ تُوَلّدُ الجَهْلَ والاِنْحِرَافَ والظْلْمَةُ وتَبْعَثُ أثامَ التَّعَصُّبِ فِي النُّفُوسِ لمواحق على طوبَاءِ الٱجتِماع، كذا التَّفلسف لِهَوَىٰ الميلِ لَا يُعطِي ثمَرَةً كَامِلةً أبَدًا إذْ يَجْنحُ فِي الجُزُءِ عَنْ حَقِّ الكُلِّ للٱكْتِمالِ، قُشُورٌ وأوراقٌ مُصْفَرَةٌ قُدَّامَ الحَقِيْقةِ لَا تثْبُتُ كَمَا قشّ النبات المقشوش أمام هُبُوبِ العَاصفة لَيْسَ لَهُ مِنْ مُسْتَقرٍّ لأمِنةِ ثباتٍ، وكَثيرٌ ألقُوا عَلَى النَّاسِ غَبَاوَاتَهُمْ فمَا سَارُوا وإيَّاهُم إلَّا عَلَى طُرُقٍ مُعْوَجَّةٍ وَمَا أكثر الحمقىٰ الجُهلاء عَلَى الأرضِ لَيْسوا إلَّا قُشُورًا وغثاءً وإنَّهُمْ أمواتاً لَا يَفْهَمُونَ لا ولَا يَفْقهونَ، أوْلَئِكَ قدْ أدْمَنُوا الثَّمَالة على كأسِ خبيطِ المَجْهُولِ وهُمْ الضُّعفَاءُ على فراشِ التَّلقِينِ بِلَا إرَادَةِ حياةٍ تتأججُ بفتيل ضوءٍ على ظلمةِ الوُجُود، والأوهاقُ ربائط الدَّوابِ تَبًّا لَهُم كيْفَ بِحَمَاسَةٍ يَطلبُونَهَا وكَيْفَ فِي إستِذلالِ أسْرِها يَفْرَحُوْنَ.

 مَا كانَ أحَدُهُمُ الصَّادق من أدعِيَاءِ الظَّاهرِ إذ كانَ يُحابي ملأ الأهواءِ عَلَى كُلِّ سَبيلٍ ليصيروا لِغايَاتِهِ الأتَّباع بَل ألقىٰ عليهم وعلى الدُّهيماءِ الشِّبَاكَ أفخاخا صنو العنكبُوتِ وَمَا يَنْسِجُ لِلحَشَرَاتِ.

 إنَّ الخَيْرَ والخَيْرَ كُلَّهُ أنْ يَحْيَا الإنْسَانُ في الصِّدْقِ ولَوْ كَانَ في الصِّدْقِ بَعْضَ ألمٍ وغُصَصًا مِنْ الحُزْنِ، ذَلِكُمْ لأَنَّ عَطَاءَ الصِّدْقِ عَظِيمٌ ولأنَّ الصِّدْقَ يَثْبتُ أمَامَ الضِّيَاءِ فَلَا يَزِّلُ أو ينْكَفِأُ لِسُقُوطٍ، أمَّا المَينُ الكذبُ وإنْ أعْطَىٰ بَعْضَ دواءٍ لِنُفُوسٍ ذاتَ حرضٍ وخَوَاءٍ فَلَا يثبتُ كُلَّمَا صَارَ بَيْنَ يَدِي التَّفْكِيرِ الصَّحيحِ وكُلَّمَا صَارَت عَليهِ الوَاعِيَة النَّوْرَاءُ، فَلَا يَسْتوِي أبدا هُدَىٰ الصِّدْقِ وٱنْحِرَاف الكَذِب، الحَرِيُّ النَّاسُ فِي الحَقِّ وعَلَى صِراطِ الحَقِّ ولِلحَقِّ لَا في البَاطِلِ وعَلَى دُرُوب السَّرَابِ وفي الوَهْمِ يختبِلُون، فَمَا أحْسنُ مِنْ الصِّدْقِ إخلاصًا وَمَا أحْسَنُ مِنْهُ ٱخْتِيَارا لِعُقَلَاءٍ لِضِيَاءِ العَقْلِ مُخلِصُون.

 وهَلْ الَّذِي يُلقي العثرات عَلَى الدَّربِ المَسلوك كمَن يمهدها أمام النَّاس، الحَرِيُّ الطُّرقُ تعبد لَا تُنقب بِالحفائِرِ وكذا لا تلوىٰ لمساقطِ المَهاوِي، وهَلْ ضياءُ الإنْسِيِّ على الطَّرِيقِ كعتمةِ البَشَرِيِّ، وَمَا هَدَيَهُ أنوارِ الإنْسِيَّةِ كمثلِ ظُلُمَاتِ الأوهامِ والأساطيرِ وقُيُودِ العُبُودِيَّةِ على مسلكٍ ودُرُوبٍ، وَمَا كَان لِأحدٍ أنْ يُمهدَ طَرِيقا وطُرُقا لِلنَّاسِ إلَّا بِحَقِّ كُلِّ حَقِيقَةٍ، لَا إلى هيكلٍ بطُقُوسِ البَلَاهَةِ عَلَى مذبحِ إلهٍ يسكن في المَجْهُولِ والخَفَاءِ، ولا إلى  تابعٍ ومَتْبُوعٍ عَلَى بُسُطٍ تغلي بالتَّعصب في مَرَاجلِ الأوهامِ والأكاذيبِ، ولا مِنْ سُطُورِ كتبٍ تتنزل من وَحي أربابٍ وملائكةٍ تَسكنُ في السَّمَاء وتمورُ مع السُّحُبِ ومِن الغابرِ السَّحيق من جهالاتٍ كانت عَلى العُقُولِ، وفيهَا النَّاس مِن ضعفٍ وحِيرتٍ وقلةِ معرفةٍ وعلمٍ كانُوا ثاوُونَ.

 ألآ إنَّ العَيْبَ عَلَى عَاقِلٍ تحدوهُ أجنحةُ الحُرِّيَّةِ أنْ يَسيرَ في ركابِ عَجَاجِ الأراذلِ والضَّعَفَاء ويثورُ وإيّاهُم على أفقِ المَجْهُولِ وأنْ يَدُور وإيَّاهُمْ في فلكِ غيبُوبَةِ العَقْلِ إذْ قُلُوبٌ يَتغشَاهَا الهَوَىٰ لِمنقذٍ من ظَنٍ لِيقينٍ، ويَتغْشَاهَا الميلُ إلى الاصطلمِ فِي مواقدِ عِشْقِ الغائِبِ لِمَجَاعةٍ مَا تخفي مِنْ حُمَّىٰ شهواتِ الأجسادِ في الصُّدُور، والحَرَيُّ الجَمَالُ والمَحَبَّةِ والعشقُ كُلّ ذلكُم لا يُمزج بِخُبالٍ وأبَاطيلِ، أم أراد النَّاسُ رمزًا عَلَى مذبحِهِ يَنْحَرُونَ عواطفَهُمْ سافكُون دمَّ مهجتهم لِيَحُوْزُوا وِسَادة إغفاءةٍ على السَّبيلِ وبعض تنويرٍ لتنظيم اِجْتِمَاعٍ مربوطا بأوهاقِ التَّزيفِ، ألَّا إنَّ المَحَبَّة لَا تعلق على مشجبِ البَاطلِ، ومَا النَّاسُ كُلَّهم أو أكثرهُمْ لِلقطيعِ ولِمَحابِسٍ فيهَا على الضَّلالِ يعضلُون، وطفق الَّذِينَ عَلَى سَبيلِ الكذبِ والتدليس عَلَى كُلِّ شجرةٍ وغصنٍ وعَلَى كُلِّ  يَنبوعِ مَاءٍ عذبٍ يَبتدعُون أفكارَ فلسفاتٍ غرائِبِيَّةٍ ليصير كُلَّ جميلٍ مصلحٍ عَلَى فُرُشِ خيتعورِهِم القبيح الفَاسدِ، وطفقوا لِدْيَمَاسِهِم المظلم كُلّ شعاع ضِيَاءٍ يُأولُونَ، ألآ إنَّهُم يُقدِمُون لِلنَّاسِ خمرةٍ وُجدانِيَّةٍ ولكنهَا مَسْمُوْمَةً بِمَا مَتحُوهَا مِنَ البَاطِلِ بكُؤُوسٍ الجَهَلاءِ وفاسدةً بِمَا عتقوهَا في خَبلةِ الأسَاطيرِ، صِنو خمرة تطلبها النُّفُوس من عناقيدِ الكرومِ لِجوفِ الأجساد مَا مِنهَا إلَّا عَلَى النَّفسِ والجسدِ بِسُمُومٍ مَهْمَا بَلغت فِي الجودةِ والتَّعتيق بل بلاء الأروح أشدّ كريهة رُزءٍ ومُلِمَّةِ بَأسٍ.

صمت قليلا آدم ثم أردف قائلا :

 مَا كان لأحدٍ أنْ يَدعي أنَّهُ رَسُولُ مخلص وهُوَ يَدرأ النَّاسَ لِلضَّلَالةِ ويُلقي عَليهم نارًا، ألآ إنَّ طريقَ الحَقِّ أبلجٌ عنْ سخفِ البَاطِلِ فٱختر يَا أخي الإنْسَان مَا تريد ولكن أحذرك من التَّعْصُّبِ إذ أوَّل مَا يُهلك إلَّا أنتَ ثم إيَّاك أنَّ تكون عَلى أحدٍ بِسُوءٍ.

 ومَا كَانَ لأحدٍ أنْ يشرعَ للنَّاسِ مِنْ أهوائِهِ ومنْ قيُود عبيد، إذ الحَرِيُّ الإنْسَانُ رَسُولُ ذاتِهِ حيث يتجلّىٰ في نُورِ الضَّميرِ، ضميرهُ وشريعتهُ بَين يديهِ إذ كانَ عَلَى الحَق هُو الإنْسَانُ، ومَا يحتاج شرعة مِن أحدٍ إنْ كَان عَاقلا راشدا إذ أنَّهُ حُرٌّ فِيْمَا يَشَاءُ دون بَيِّنِ ضررٍ عَلى الآخرِينَ، ألآ لقد أسْرَفَ كثيرٌ مِنَ النَّاسِ لُهَاثا وَرَاءَ السَّرابِ أفمَا آن الأوان يَا أيُّها النَّاسُ أنْ تحيوا بِإرادتِكُم في صدقِ المحيَا عَلى دربِ الحَقِيقةِ الإنسِيَّةِ بعيدا عَنْ خُدعِ الأفاقِينُ وعَنْ مُستسيدٍ وكَذابٍ.

 وَمَا كان لأحدٍ أنْ يَدعي أنَّهُ إنسانٌ وهُوَ مُنحطٌ في البَشرِيَّةِ ورَاسفٌ بِقُيُودِ العُبُودةِ عَلَى كُلِّ سَبِيلٍ، إذ الحَرِيُّ بِالإنْسَانِ أنْ يَحْيَا في جوهرِ لبِّ الإنْسَان عَلى الكُلِّيَّةِ وعلىٰ صراطٍ النَّزَاهَةِ وبِفَائِقِ الصِّدْقِ والإخْلاصِ.

 وما تحتاج الأنسِيَّة لداعيَّة مخلصٍ يتربع على عرشِ دِينٍ إذ الحريُّ كلٌّ هُو نفسَهُ يُخلصُ ويُرسلُ كلمة الإنْسِيَّة لكلِّ من حواليهِ ولأبعد مدىٰ بِنُورِهِ يُشرق على النَّاسِ وبِضِيَاءِهِ على الوُجُودِ.  

 ألآ طوبَىٰ لِكلِّ صَادِقٍ حَيٍّ نَبِيلٍ مَحْيَاهُ في نورِ الإنْسِيَّةِ ولا يتبدل أبدا معتقدهُ الإِنسِيِّ الأسمىٰ بأين كان من زخرفِ ٱعتِقاد، إنَّهُ هُو الإنْسَانُ الكَامِلُ المُخلصُ الأمِينُ.

         من كتاب الإنسان النوراني الكامل لمؤلفه : 

               المهندس أبو أكبر فتحي الخريشا 

                                 ( آدم )

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

تلك الزوجة الحكيمة... للا ايمان الشباني

سيدي... فاطمة الزهراء احمد

انا مسافر... محمد حمريط