الحكاية رقم 29… للكاتب صباح خلف عباس

الحكاية رقم ( ٢٩)
الى / ابي : عفوا لقد قتلناك مبكرا
تجاوزت الستين سنيني .. الذكريات والمشاعرالمرتبطة بأبي لا تزال باقية مطبوعة على جمجمتي .. وها انااليوم استدعي تلك الذكريات التي انقضت منذ زمن طويل .
الوالد ( رحمه الله) ارتحل الى السماء بسفرة مجيدة قبل هذا العمر بكثير
كانت حياته صعبة جدا ونحن( اولاده) زدناها صعوبة والما .. كان لايكل ولايمل من البحث والكد ليسدافواهنا المفتوحة دوما .
كنت واخوتي الكثيرون لانستشعر بألمه ولا نتحسسه وهو يذوب كالجليد ، وكانت هذه احدى حكاياته :
كنت في السابعة من العمر .. داهمني مرض كاد ان ينهي حياتي مبكرا .. يغمى علي بين الفينة والاخرى .. وحرارتي مشتلعة كجهنم .. كل هذا يجري تحت انظار الرجل الذي يسمى ( خلف) وهو ابي رجل لاحول ولاقوة له .. يحاول المستحيل لانقاذ حياتي من موت واقف يترقب في الدهليز امامي ..
الفقر ثوب تسربل به والدنا بأجحاف .. فكانت ( الكمادات) وتلك الخرق المبللة بالماء وسيلته الوحيدة لأطفاء النار المشتعلة في جسدي .. واحيانا اشعر بدموعه وهي تقطر على وجهي..
— (صباح) ابق معي .. لاترحل ارجوك .. ماذا افعل بني ؟؟
وانا يوم بعد يوم احس بأروحي وجسدي لم يعودا لي ... فأقول له
— ابي .. يوم القيامة ليس بعيد ..
وكأنها الصاعقة وقعت عليه كلماتي ، فحملني كالمجنون ، وهو لايدري اين يذهب بي .. لايمتلك نقودا ليعرضني على طبيب مختص ، فهرع بي الى المستشفى العام المجاني عسى ولعل ...
حملني بيديه المتعبتين النحيلتين ، ليركض بي .. والله اني لاحس بنبضات قلبه تتسارع وكأنها تريد الفرار من قفصه الصدري وأنفاسه الساخنة تلفح وجهي حاملة الالم كله وتعب السنين .. ولاول مرة اشعر بضعفه البدني حتى كدت اسقط من يديه ، فقلت له :
— انزلني ابي .. استطيع المشي ..
خوفا عليه نزلت .. وما ان خطوت خطوتين حتى اصطكت ركبتاي ، وسقطت أرضا .. فحملني مرة اخرى .. ثم اركبني على ظهره تارة وتارة على رقبته
— ابي ارجوك .. اني اقتلك .. اتركني هنا ..
 لكنه لم يكترث بي .. وبخطوات مرتعشة اوصلني الى المستشفى .
هرع اليه بعض الناس .. حملوني وارقدوني على حمالة ، وبدأ أبي يركض بي عبر ممرات المستشفى ودهاليزها .. وكنت اشبه بفاقد الوعي ..
لا ادري بالساعات او الايام التي مرت .. ولكني افقت على اصابع ابي النحيفة وهي ( تهمز) لي ارجلي ، كانت مليئة بالاحساس الابوي والدفء .. لاستيقظ في صباح يوم زجاجي مشرق يضئ في حنو مبكر .. وان الغيمةالملتهبة بدأت تغادرني .. فتناوشت اصابعه المنهكةلاقبلها .. لانها منحتني ذلك الشعور بالحنان والدفء والرضا .. حيث رأيت املي يهبط علي .. ونظرت الى وجه ابي فرأيت ثمة ابتسامة ورضا وبهجةتعلوه تماما ، عانقني ودموعه تنسكب كالميزاب وهو يتمتم :
— الحمد لله واشكر لك ربي ..
هذا هو ابي .. اتذكره اليوم كأنه من نور نقي يطير في الجنة .

      (( صباح خلف عباس ))

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

ماللوطن... عبد الرزاق سعدة

سيد قلبي... ياس ياسمين

الحسود..خواطر بن قاقا