حوار الطرشان… للكاتب بركات الساير العنزي

أبو مروان العنزي / بركات الساير
من مجموعتي القصصية ( حوار الطرشان )                                            ط- دار النوارس للنشر - القاهرة -مصر
وسرقت عمري سماح الجزء 3

..... عندما سافر عبدو كان الموقف صعبا للغاية ، لم يتمالك الجميع نفسه في مطار دمشق ، الكل بين مصدق ومكذب ، شيء أشبه بالخيال ، لوحت الأيدي للمسافر والدموع منهمرة من العيون . دخل الطائرة ليبدأ حياة جديدة وتاريخا جديدا من حياته .
.... بدأ عمله في مدينة الكويت ، وانهمك في عمله، وقد عرف بالنشاط والنظام والعمل . وقد سيطر العمل على عقله  ، حاول أن يضع مشاعره تحت سطوة عمله ، لكن أحاسيسه كانت تخرج من سور الحصار، وتتأجج العواطف في قلبه فتصبح كالنار المشتعلة وكلما استرجع الماضي زاد من إضرامها .
كانت نفسه تتوق للعودة إلى وطنه منذ الوهلة الأولى ، ولكن كلما تذكر سماح يتراجع عن موقفه .صبر وتصابر، وكبح جماح شوقه لأمه ، وشعر بنفسه كسمكة خرجت من الماء . لكن الرجوع صعب ، سوف يستصغره الناس حسب تفكيره .
يريد أن يترك السنين لتمحو الذاكرة وما بقي عالقا فيها من حب سماح .
بقي في الكويت ثلاث سنوات لم يسافر فيها إلى أهله ، لكنه كان على اتصال دائم مع أمه على الهاتف والرسائل . لم تكن والدته مطمئنة على أحواله تشعر بأحواله النفسية المتعبة ، لذلك بقي بالها مشغولا دائما  به.

.... ركب عبدو أول طائرة متجهة إلى دمشق بعد أن أخبره هاني أن أمه مريضة وتطلب حضوره فورا. أمضى مع أمه المريضة شهرين كاملين لايفارقها أبدا . لم يستطع عبدو أن يفعل شيئا لأمه حيث اشتد المرض وأسلمت الروح للرب الخالق الكريم . حزن عليها أشد الحزن، فقد كانت السند الوحيد له في الحياة. فقد الابتسامة التي تستقبله عند دخول البيت ،وفقد القلب الذي يسمع همسات قلبه، عصر الوجد فؤاده ، وغمرة المأساة نفسه . ولكن لا مفر من التسليم بأمر الله فقد كان مؤمنا بقضاء الله متقبلا لقدره .

وبعد مراسم العزاء رجع إلى الكويت لعله ينسى موت أمه ، فالمكان بدون أمه موحش .
استمر عبد الكريم في عمله خمس سنوات أخرى ، شعر أن الغربة أكلت سنين شبابه فآثر العودة إلى وطنه ، رجع إلى وطنه بعد جمع ثروة لا بأس بها ليفتح مكتبا هندسيا فخما يليق به .
لم يحظ بتلك الحفاوة والأهمية التي استقبل بها من قبل ، حيث كان الجميع مشغولا بعمله وأولاده . دعاه هاني لزيارته في البيت ولكنه رفض ، أراد أخوه أن يعرف السبب وجفاء أخيه لزوجته ولكن عبدو آثر الصمت في مداواة الجرح .
ولكن سماح لم تبد ضيقا ولم تشتك لزوجها ولكن هاني لاحظ ذلك ، بقيت زوجته صماء خرساء أشبه بالمرأة البليدة التي لا يعنيها الموضوع من قريب أو بعيد . غير أنها تدرك مدى حزن عبدو وعتبه عليها . لم يمنحها فرصة للتعبير أو الاعتذار. كلما التقت عيناه بها يشيح بوجهه عنها . أدركت أن الرجل لم يسامحها فهو يحمل في قلبه الكثير .
... بدأ عمله في مكتبه الجديد ، وضمت شركته مجموعة من العاملين والعمال ، عرف بحبه للعمل وتقديره للعمال . حيث كان يساعد المحتاجين ويقدم الخدمات . كان رمزا للرجل المستقيم المؤمن الذي يعرف حقه وحقوق غيره .تواضعه دفع العاملين إلى محبته وتقديره .

.... دخلت المكتب امرأة جميلة تبدو في الخامسة والعشرين من عمرها ،تبدو عليها أناقة بسيطة ترتدي ثيابا متواضعة ، طويلة القامة . سألت عن الأستاذ عبدو كانت تحمل بيدها ورقة . أخذ عبدو الورقة إنها توصية من صديق وقريب بنفس الوقت . يوصيه بإيجاد عمل للمرأة إذ تعيل أسرتها التي فقدت معيلها منذ سنوات عديدة .  نظر إليها عبدو نظرة متمعنة ،  كأنه لأول مرة ينظر إلى امرأة جميلة .
 رحب بها أجمل ترحيب ودعاها للجلوس ، جلست كقطة أليفة يبدو عليها الوجل والخجل .وافق على طلب صديقه ووظفها سكرتيرة له في المكتب، وطلب منها أن تداوم في اليوم الثاني بعد أن شرح لها طبيعة عملها .

داومت ميساء على عملها ،كانت نشيطة ومؤدبة أدبا كبيرا أضفت على المكتب الأنسة والجمال . حملت عن عبدو كل أعباء المكتب وتنظيمه وملفاته ، ارتاح عبدو لوجودها ، كأنها هبة من الله تبعد عنه الوحشة .
صوتها الرقيق ينساب كهمس النسائم في الربيع، بدأ الصوت يستهوي القلب المتحجر ، راح عبدو يهتم بها يوما بعد يوم . احترامها الزائد كعاملة في المكتب جعله يشعر بشيء من الدف ء ، استوقفته مرة وهو خارج قالت له : انتظر ، وقف أمامها مذهولا راحت تعدل ربطة العنق .
لأول مرة يحس بامرأة تهتم به . بعد أن خرج قال : الحياة لا تساوي فلسا من غير امرأة !
أين كنت من حياتي يا ميساء؟
- دخل المكتب صباحا ، وألقى التحية . كعادتها بعد دقائق جاءت له بالقهوة التي تعملها بيدها . أرتشف من الفنجان رشفة ثم نظر إليها ، وجدها منكبة على عملها.
ساءل نفسه : هل عرفت الحب أم أنه لم تكتو به بعد ؟
ما الذي يمنعها من الزواج وهي بهذا الجمال ؟
سأعرف الحقيقة ولكن ليس بعد الآن .
أمضت ميساء عاما في عملها وعبدو يزداد إعجابا بها  ، لكنها مازالت تعامله في حدود الرسميات  وتمنى لو أنها كسرت ذلك الحاجز الذي يفصلهما عن بعض .
لم تكن ميساء بعيدة عنه كانت مثله تختلس النظرات عليه عندما ينهمك في عمله . يبدو في الخمسين من عمره ولكن مواليده تثبت أنه في الخامسة والأربعين من عمره. غطى الشعر الأبيض معظم صابريه وأعلى رأسه  ، برزت كرشه قليلا للأمام ، ولكن تبدو عليه ملامح الهيبة والوقار والاحترام . لم يدر بخلدها أن الرجل يمكن أن يحبها ، عرفت أنه غير متزوج وظنت تقربه منها ومعاملته الحسنة من باب الأخلاق والعطف والصفات التي عرف بها.
تنبهت على صوته :
-ميساء هذه الأوراق لم تنجز بعد ، ما الأسباب ؟
- نعم يا أستاذ ، البلدية لم توافق على المخطط ، وتحتاج إلى دراستك لتعديل المخطط .
- حسنا يا ميساء .
 نظر إليها وأدام النظر، أحست به فاحمرت وجنتاها من الخجل، شعرت بالارتباك وأشغلت نفسها بأوراق أمامها واختلست نظرة إليه ، مازال ينظر إليها . أدركت عمق نظرته . لأن الفتاة الذكية تميز عمق نظرة الرجل وتفهم ما يجول في خاطره. واستدرك عبدو الكلام :
- هل أنت متزوجة ياميساء ؟ .
- لا ، يا أستاذ عبدو أظن أن قطار الزواج قد فاتني.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

ماللوطن... عبد الرزاق سعدة

سيد قلبي... ياس ياسمين

الحسود..خواطر بن قاقا