إلى زوجتي...عمار العربي الزمزمي

 ** * من اعترافات شهريار في اللّيلة الثانية بعد الألف ***


                                              إلى زوجتي


تَثاءَبَ النهارُ قبْلَ أَنْ يُكفّنَ أَجفانَهُ الْمَسَاءْ

وَ لَفَّ الْقصْرَ صَمْتٌ مُوحِشٌ

وَ أُطْفِئَ مَا فيهِ مِنْ أَضوَاءْ

جَناحُ شهْرَيَارْ 

قدْ ظلَّ وَحْدَهُ مُضاءْ .

تمطّتْ شهْرَزادُ في دَلاَلْ 

و قالَتْ في اسْتِحْيَاءْ :

"هَلْ يَأْذنُ مَوْلاَيَ أَنْ اسْتأْنِفَ الْحَديثَ حَيْثُ أَوْقفْنَاهُ الْبَارِحَهْ 

إنْ كَانَ قدْ تفضّلَ بِنعْمَةِ الإصْغاءْ ؟ "

فقالَ شهْرَيَارْ 

في هَمْسٍ لَمْ تَعْهَدْهُ شهرزادُ مُطلَقٌا 

و نبْرَةِ استجْدَاءْ :

"يَا شهرزادُ يَا بَالِغَةَ الذّكَاءْ

دَعينَا نقْلِبِ الأَدْوَارَ لَيْلَةً 

فَلْتَسْكُتي و اللّيْلُ لا يََزالُ  حَالِكَ الظّلْمَاءْ

وَلْتُنْصِتي إلَيَّ جيّدًا 

في لَحْظةِ صَفاءْ ".

ـ" مَوْلاَيَ أَخشى إنْ أَنا سَكَتْ 

أَنْ يُقطَعَ اللّسَانُ منّي ـ قبلَ الرّأْسِ ـ  مثلَ سَائِرِ النسَاءْ".

ـ "أَرْجوكِ لاَ تخافي 

مَا عُدْتُ استطيعُ أنْ أُصادِرَ الأصْواتَ مثلَمَا أَشاءْ 

فشهريارُ الْوَحْشُ قاتلُ العذارَى مَاتَ لِلأَبَدْ 

 الْحُبُّ يَا لَبيبَتي قدْ أَحْدَثَ مُعْجزةَ الشفاءْ ".

ـ "الْحُبُّ قلْتْ؟

كَلِمَةٌ لَمْ تُسْمَعْ منكَ أَبَدَا .

مَا  مَعْنَى أنْ تحبّني 

في زمَنِ احْتسابِ الرِّبْحِ و الْخسَارَهْ 

و قِسْمَةِ الغنائِمِ مَا بَيْنَ الإخوَةِ الأعْْداءْ؟ ." 

ـ" مَعْناهُ أنْ أُجذّفَ 

بعَكْسِ الرّيحِ في الأنواءْ 

أنْ أُؤْمِنَ بالصّدْقِ و الوفاءِ و النقاءِ و المودّةِ 

في زمَنِ الخِداعِ و النفاقِ و الكراهِيَهْ 

و العُهْرِ و السُّقوطِ و البغاءْ 

معْناهُ أنْ تكوني الماءْ 

و الظلَّ في الصّحْرَاءْ 

و أنْ تكوني النورْ 

في لَيْلَةٍ لَيْلاَءْ 

لِمُدْلِجِ قدْ ضيّعَ طريقهُ 

و هَدّهُ الإعْيَاءْ 

خطيئَتي التي ارتكبْتُ دونمَا ندَمْ

لِيُصْبحَ الْهُبوطُ كالإسْرَاءْ 

و تنتفي الحواجزُ مَا بيْنَ الأرْضِ و السّماءْ 

معْناهُ أنْ أنبَعِثَ 

متى دَنوْتِ منْ رَمادي كالْعَنْقاءْ 

و أنْ يَظلَّ الطفلُ فيَّ يَحْلُمُ 

بالنحْلِ و الفراشِ و الزهورِ في الشتاءْ 

و في سنينِ الجدْبْ

بالخصْبِ و الرّخاءْ 

و أنْ أظلَّ رَغمَ صَمْتِكِ الثقيل أقرَاُ 

مَا في أَعْمَاقِكِ يَضجُّ منْ مَشاعِرَ 

يَحُولُ دونَ الْبَوْحِ و الإفصاحِ عنْهَا الكبْريَاءْ 

مَعناهُ أنْ يَجْتاحَني الشعورُ بالْغيَابْ 

مَتَى شهِدْتُ وَحْدي رَوْعَةَ الشروقِ و الغروبِ في الْخَلاَءْ 

و تَعْتَريني رَغبَةٌ وحْشيَّةٌ 

ـ كالطفلِ ـ في الْبُكاءْ 

و أنْ يَصيرَ الْكَوْنُ في غيَابِكِ 

زنزانةً ضيّقةً

لا يَنفذ إلَيْهَا النورُ و الهَوَاءْ 

و أنْ أظلَّ أهْذي باسْمِكِ 

عَلَى فراشِ الْمَوْتِ حتّى الانطِفَاءْ 

مَعْناهُ أنْ يَصيرَ حِضْنُكِ في لحَظاتِ البَوْحْ

كُرْسيَّ الاعترافِ بالأخْطاءْ

عليْهِ يَا فاتِنَتي أعْتذرُ 

لِسَائِرِ النسَاءْ

عنْ كُلِّ دَمْعَةٍ قدْ ذُرِفَتْ 

و كلِّ آهَةٍ قدْ صُعِّدَتْ 

و كلِّ بسْمَةٍ قدْ سُرِقَتْ 

و كلِّ رَغبَةٍ قدْ كُبِتَتْ 

و كلِّ شفَةٍ قدْ نُهِشَتْ 

و كلِّ حلْمَةٍ قدْ ذُبحَتْ

 و كلِّ أُنثى خُتِنَتْ و اغتُصِبَتْ 

أوَّاهِ في مَقاصيرِ الْحَريمِ و الإمَاءْ 

أعتذرُ لهنّ يَا غاليَتي 

عنْ كلِّ مَا قدْ سَالَ من نحورِهِنَّ عندَ الذبْحِ من دماءْ 

عنْ كلِّ مَا ارتكَبَهُ الذكورُ منْ جرَائِمَ 

بدافِعِ الغرورِ و الشذوذِ و الغبَاءْ ."

ـ "لماذا يَا مَوْلاَيَ اخترْتَني منْ دونِ سَائِرِ النسَاءْ ؟ "

ـ "لأنّكِ أنسَيْتِني منذُ التقيْنا 

كلَّ قطّةٍ أَليفةٍ 

و كلّّ دُمْيَةٍ عَمْيَاءْ

مَحَوْتِ منْ ذاكرَتي 

كلَّ الصِّفاتِ و الاسماءْ 

سيَّانِ عندي اليَوْمَ شُقْرَةٌ أَوْ سُمْرَةٌ 

سيّانِ هندُ أوْ بُثيْنةُ أوْ لَيْلَى أوْ عَفرَاءْ 

عَلّمْتِني 

أنْ أبْحَثَ في اللُّغَةِ 

عنْ مُفرَدَاتٍ بِكْرْ  

مَا فضَّ خَتْمَهَا الأمْوَاتُ و الأحْيَاءْ 

لأنّني أرَى في رَفّةِ أهْدابِكِ تمَوُّجَ السّنابِلِ 

في أرْضنا الْمِعْطاءْ 

و أقرَاُ على جبينِكِ الْمُرْتفعِ 

مَا في أعْمَاقِ شغْبِنا الكريمِ منْ إبَاءْ 

لأنّني أحسُّ حين تبْسُمينَ رَغْمَ الحُزنِ في عَيْنيْكِ 

أنّ الفجْرَ آتٍ رَغمَ وَحْشةِ الظلْمَاءْ ."

ـ "أخافُ أنْ يُصيبَكَ الضّجَرْ 

و أنْ تملَّ عِشرَتي

إذا اكتشفتَ السّرْ 

و أنْ يسْتيْقظَ فيكَ الرّحيلُ فجْأَةً

و أنْ تُلَبّيَ النداءْ ."

ـ مَا عَادَ للرّحيلِ وَحْدِي مُوجِبٌ 

لأَنْتِ منْ قضيْتُ العُمْرَ عنكِ أبْحَثُ 

يَا مَرْفئي الأخيرَ 

يَا خلاَصَةَ النّساءْ 

سَنسْلُكُ طريقًا صَاعِدًا 

بغابَةٍ كثيفة ظلالُهَا فسيحَةِ الأرْجاءْ 

و نوقدُ في كلِّ رُكْنٍ شمْعَةً 

لِكَيْ لاَ نبْقَى نلْعَنُ الظلامَ في اسْترٍخاءْ .

سَيُدْرِكُ منْ سَوْفَ يَأْتي بَعْدَنا 

بأنّنا مَرَرْنا منْ هُنا 

و لَمْ نكُنْ عَلَى جدَارِ الْكَهْفِ ظلاًّ عَابِرًا 

مَآلُهُ الْفنَاءْ ."

و أدْرَكَ الصّبَاحُ شهْرَيَارَ وهْوَ في أحْضانِ شهْرَزادَ نائِمٌ 

كالطفلِ بَعْدَ طولِ اللّعِبِ 

أَصَابَهُ الإعْيَاءْ .


        

                عمار العربي الزمزمي

               الحامة، تونس، ديسمبر2018

               من ديواني " في انتظار الربيع"

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

ماللوطن... عبد الرزاق سعدة

سيد قلبي... ياس ياسمين

الحسود..خواطر بن قاقا