قهقهة النوارس..سالم عكروتي

 قهقهة  النوارس

ص/32

...اليوم  الإثنين، السوق الأسبوعية  للبلدة وأول  أيام  الزفاف  بلياليه  السبعة، أهل  العريس  نساءا  ورجالا يؤمون  السوق للتبضع  وشراء لوازم  العرس ، لإختيار فساتين  ولباس آخر  للعروس ، عطورات  الحنة ولوازم  (السخاب)  والذبائح  يتكفل  بها  الرجال، يكون الإستدعاء للحفل شفويا بين أهل العريس وبقية الأقارب والجيران ومن لم يجدوه في السوق، أو تخطوه  سهوا، يوكل هذا الأمر للأخ الأصغر مثلا  أو لشاب من الأقارب، فينطلق  على ظهر حمار ليستدعي البقية    والبعيد منهم بإسم  أب العريس.

غربت الشمس وبدأ التهيأ لإحياء الليلة  الأولى من الحفل السعيد، الأم وبناتها يشعلن كوانين الشاي، يبسطن الفرش  في الساحة  بعد كنسها وتهذيبها لتنطلق زغرودة  رائعة بين الفينة  والأخرى، الجيران والأقارب  يحلون  فرادى وجماعات ، تستقبل الأم والأخوات القادمات  من النسوة  والبنات بترحاب كبير بين ضحكات  الفتيات  اليافعات ومزاح الكبريات  بين التباريك  والتمني بدوام الفرح والسعادة  للعريس  والعروس، تحتضن الأم رفيقاتها وتقبلهن  وتشكر لهن  قدومهن  المحمود.

عم صالح والد أحمد الدوزي في ركن مظلم من الساحة يعالج( البريميس) على ضوء (القازة) الباهت  ،يزوده بالنفط  ويثبت (الشكارة) ليسطع ضوءه وهاجا  يعم  جزءا  كبيرا  من الساحة، في  إنتظار (حمدة) إبن  عمتي  الرجل البشوش ليأتي ومعه  بريميس  آخر تعود  أن يمنحه في كل مناسبة،  فرحا  أو عزاءا، يمشي بخفة والظلال تتمدد  وتقصر  كلما طوحت  يداه  قليلا   بالآلة  الثمينة  والمضيئة، عائلته الكريمة  تمشي  خلفة  بصمت، حمدة  رجل خفيف الروح، مولع حد الهوس  بلعب  (الشكبة) مع أترابه  حالما يحل  بالمكان يرحب به الجميع  وفورا  تنعقد  حلقة  اللعب  المتكونة  من  أربعة  أفراد يكونون  فريقين  متقابلين بين  غامز على  ورقة(الحية) ومحذر من مكر  ودهاء  الخصم، يقابله  عمر  وهو يتمتم  الظاهر أنه يحسب  وهذا  من فنون اللعب، لكن في الأخير تكون معادلته  مخطئة  فيتحسر  ويعض على شفتيه ويلعن (اللص) و (التريس)  بين ضحك البقية  وغضب حمدة لأنهما خسرا الجولة  الأولى.

تقوم الأم مع بعض جاراتها خارج الساحة وعادة  ماتكون في الظلام  ، فيشعلن شجيرة (دقفت) يابسة تلوح  بها  إحداهن  عاليا  بين الزغاريد الطويلة ، نعم  إنها (النجمة)  إشارة  لبدأ  الإحتفال  وعلامة   يراها  الأجوار من بعيد، ليتلقف الصغار  ما تبقى  من الشجيرة المشتعلة يحملون عيدانها المنيرة ، يتراكظون  بحبور في الظلام.

خالد تراه دائما في الأفراح ،يمد يد العون لأهل العريس ،يطبخ الشاي  ويوزعه على الجميع، أحيانا  ينظم  إلى النسوة في اليوم المشهود  ويساعدهن  في طبخ  طبق  الكسكسي  بلحم  الخراف، لا تستهويه النساء ولا يرغب في  مزاحهن، يضحك  ويغضب  لأتفه  الأسباب  وربما  يبكي  أحيانا، يدخن بشراهة  سجائر (الحلوزي)  ،وبعدما يتم عمله ينزوي  بعيدا  عن الأنظار  ومعه بعض المملحات  ليفتح  قارورة الخمر (كوديا)  التي  حفظها بعناية  عن العيون  وينخرط في حفلة ضيقة  تخصه وحده ،، يكثر من الحديث  يسب ويشتم  كل  من حاول  تعكيير صفوه.

جمع من البنات  يحلقن ، تقلدت إحداهن  (الدربوكة)  وراحت تنقر عليها ، الأخريات ، يصفقن  ويتغنين بوصلات فيها  من الغزل  الكثير، تقوم إحدى الجارات تتوسط  الساحة ، تتمايل بغنج  وترقص  رقصة  لا  تتناغم  مع  الإيقاع، تقترب من حلقة  الرجال ، فيحيينها وتمر  همزات  وهمسات   ووشوشات  يعلم الله  كنهها، تلتحق بها الام وإحدى الأخوات لتجر معها صديقتها  لترقص معها  وتذهب عنها  ما  إعتراها  من خجل، تتعالى  الزغاريد  وتكتمل حلقة الرقص  بإنظمام  فتيات  أخريات  تحمسن  للمناسبة، يتحفز  جمع  الشباب وتشرإب  أعناقهم  بين  التصفيق  والصفير ، ليلتقطوا  نظرة خاطفة  من الجميلة  فيهن، ويسطر المكتوب  سطوره ويتحرك  النصيب، وتعقد  صفقات من الحب  والود ومواعيد جميلة، قليلا ما  تتوج  بخطوبة  أو  زواج، وباقيها  يمر بين  التناهيد والسهاد  وآهات العشاق  من هجر الحبيب.

احمد الدوزي  العريس الخجول، مع رفاقه في ركن  آخر من الساحة ،تعمد عدم الظهور إستحياءا  من  أبيه المتكأ على مرفقه وبيده عود حطب يابس  ينكت به الأرض وهو مطرق ،لعله لخوفه  أن لايتم  الفرح  كما يريد ، أو للجوءه  إستدانة بعض الخراف من  أحد معارفه وأن لايوفق  في سداد  ثمنهم  في  الموعد المتفق عليه، وبين الحين والآخر يخرج  لفافة صغيرة من مسحوق (النفة) من تحت شاربه الاسفل  ليرميها كيف ما إتفق  لتستقر مكانها أخرى في الحين، رجل وقور كثير الصمت  قليل الكلام ،له هيبة وإحترام  ببن  أقاربه  يهبون لمساعدته ومد العون إليه  كلما  إقتضت  الحاجة، يحبهم  ويحبونه.

حلق قلبه بعيدا  أحمد  الدوزي  حيث حبيبته  وزوجة المستقبل  المزهر، تذكر  لقاءاتهما  الجميلة وخلواتهما  البريئة  والطاهرة  على  أسوار  المرفأ وفي  حدائق  المدينة  الصاخبة، راح بخياله الى البحر  والمرافئ   والمراكب  الرابظة  والتي  تمخر عبابه ،أين النوارس  وعروس البحر  الفاتنة  الغامضة  التي كثيرا  ما  غارت  منها  حبيبته  الإنسية، أصدقائه  وصحبه  يمازحونه، لقد  مر  إلى  الضفة  الأخرى  وها هو  يودع  حياة  العزوبية  ليتركها  لهم ، يبتسم لهم  ويدعو  لهم  بحظ  رائع مع  رفيقة جميلة  وطاهرة.

_ هزي  حرامك  وخمريك .........وشمتك  عذبتني

لامال  ولا  باش  نشريك 

ولا  كرهبة  وصلتني

تنطلق  إحدى  الحرائر بصوت عذب جميل ، بسجع بدوي عذب  ضارب  في  الأصالة  وتراث الأجداد، ينصت لها الجميع بشغف، تلتحق بها  أخرى وأخرى  ويؤدين أروع الأغاني البدوية بين إعجاب الجميع  والزغاريد  تتخلل الوصلات.

خالد يوزع الشاي  الأخضر  والأحمر  منه  كل حسب رغبته، السجارة  لا تفارق شفتيه  وهو يتهكم ويضحك بصوت مبحوح من أثر  التدخين.

حلقة الشكبة شارفت على النهاية  ،حمدة ينتصر على خصومه  رغم حسابات عمر الخاطئة  دائما ، ينخرط في موجة من القهقهة وحديث، متفاخرا  بحنكته  وخبثه الأبيض  في لعب  الشكبة، أضواء البريميس  تخفت ، الصبية بعد  ركظهم  ولهوهم يداعبهم النوم يتمددون  على الفرش  لتحملهم  أمهاتهم إستعدادا  للمغادرة، ينسل الحضور  كما جاؤوا مهنئين  ومباركين  وبوعد  بالرجوع  في  اليلة المقبلة، الأم ترافق المغادرين  خارج الساحة  بين تشكراتها  وفرحها  ورضاها الظاهر على محياها، تفرغ الساحة إلا  من الأهل  يلملمون  الأواني  والفرش والبسط  بتعب باد عليهم  وسطو النعاس، ثلة من الشباب المتصعلك يمططون  بقائهم  لغاية تعقب  المغادرين  لعلهم  يظفرون  بكلمة  أو همسة  من إحدى  الفتيات ،يتولى أمرهم  الأب الصارم  ويعاتبهم  بجدية ، فيتسللون  بين  ضحك  مرتفع  وكلام  خافت  وماجن.

يعم الهدوء  هدوء بديع  فيه  من الود  والصفاء  والأحلام الجميلة ،والرجاء  والدعاء أن يتم الله  عليهم فرحهم  بأمن  وسلام............ يتبع


سالم عكروتي (أبو عيسى) تونس

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

ماللوطن... عبد الرزاق سعدة

سيد قلبي... ياس ياسمين

الحسود..خواطر بن قاقا