اه يا زمن… قصة للكاتب بركات الساير العثزي

الكاتب القاص
أبو مروان العنزي
من مجموعتي القصصية ( حوار الطرشان )
ط- دار الفراعنة للنشر -القاهرة
قصصي  الفكرة من الواقع ، ويرسم ملامحها قلمي
آه يازمن
.....في مزرعة عمها الجميلة التي تقع شمال حلب، جلست لارا وقد أسندت ظهرها للشجرة القوية ، التي راحت تتحدى الزمن ، تغرس جذورها في الأرض فتزداد تشبثا بالحياة ، وتمتد غصونها لتعانق السماء .. لا زالت المعركة طويلة مع الحياة ، وكلما زاد عطاؤها نجت من فأس الفلاح ، وكلما عمقت جذورها صمدت أمام الرياح الهوجاء .. وتحكي الشجرة لكل شخص يستريح في ظلها ، أو يأكل من ثمارها حكايتها مع الزمن .. وكأنها تقول : الصبر مفتاح الفرج . وراحت تنظر إلى الشجرة ، التي تعملقت وشمخت بأنفها تفاخرا وعزة .
همست لارا في أذن الشجرة: أنا وأنت متشابهتان ، لعلي قوية مثلك ، لم تقتلعني الرياح العتية
كنت كصلابتك في العزيمة والاقتدار ، ابتمست للشجرة ووضعت يدها تتلمس لحاءها بحنان .
اقتربت منها نعمت ابنة عمها مبتسمة وقالت :
 بم يفكر الجميل ؟ لقد شرد الغزال بخواطره بعيدا .
ما أسعد ابن الحلال الذي تفكرين به ! . هل يمكنني أن أعرفه ،أو أعرف بعض صفاته .؟!!
-ابتسمت لارا وقالت : لازلت بعيدة التفكير عن هذا الموضوع ، لأني موصدة قلبي وأحكمت إغلاقه حتى أحقق كل أهدافي . ونظرت إلى الشمس وهي تنحدر من كبد السماء ، وكأنها تريد إنهاء يوم طويل . قالت نعمت : هل أعجبك الغروب ؟
قالت لارا : نعم ، الغروب جميل ، فاصل زمني يوحي بالاستراحة من عناء يوم طويل . ولكن الشروق أجمل. فيه تبدأ الحياة دورتها من جديد .. ليبدأ الإنسان جولة من العطاء والنشاط .
-إذا أنت تفكرين في موضوع آخر ربما أعرفه ، ولكن لا أريد أن أحرك مواجعك ، وأوقظ آلامك، ولكني أقول لك : اتركي أمورك للخالق ، وتمتعي بيومك الجميل معنا .
ـ أتعرفين يا نعمت ؟! أنا مثل هذه الشجرة ، أزداد مع الأيام صلابة وقوة ، لقد علمتني الأيام أن أكون قوية صبورة ، إن آلامي لم تنم حتى تستيقظ ، ولم تمت حتى أدفنها .. حلمي الوحيد بعد أن أنهي دراستي في الطب ، أفتش مع أخي عن أمي . وسقطت الدموع من عينيها ، صورة أمي مطبوعة في قلبي عندما كنت صغيرة في السادسة من عمري ، عندما اختلفت مع أبي ، وراح يضربها كالوحش ، وخرجت ولم تعد حتى يومنا هذا .. عادت إلى بلدها في لبنان هربا من معاملة والدي القاسية لها.. كان يضربها على كل شيء . كان أسدا على أمي الغريبة .. ودجاجة مع امرأته التي تزوجها بعد أمي .لا بد من يوم ألتقي مع أمي، أنا وأخي ، نرتمي بحضنها ، ونقبل رأسها ،  أتجدينه حلما مستحيلا يا نعمت ؟ ! طال الزمن أو قصر سأعرف صورتها وشكلها إنها تشبهني كثيرا ، حسب قول أبي لي عندما سألته عن أمي .
- لا ليس مستحيلا ، ستجدين أمك إن شاء الله ولكن خففي من حقدك على والدك ، إكراما لأبي .. أليس أبوك أخاه  ؟ .
-بلى ، عمي هو والدي .. هو من زرع الحنان والدفء في قلوبنا ، لقد أنقذنا من براثن تلك المرأة الشريرة ، زوجة أبي .
- ولكنها مريضة ، وعلى فراش الموت ، اشتد بها المرض عندما زرناها أمس .. نظرت إلى وجوهنا ، وكأنها تنتظر قدومك مع أكرم ، لا حظنا ذلك من عيونها .. فقدت عيونها الجمال الذي سحر والدك .. وأظن فقدت سطوتها عليه .. صدقيني يا لارا ، الحقد يهدم ولا يبني .. ولا يشفي الصدر ، وحده التسامح الذي يريح النفس ..
- كيف أنسى يا نعمت ؟! .. أأنسى أمي التي طردت من البيت بسبب تلك المرأة ؟، لقد أحبت أبي واشترطت عليه طلاق أمي .. ، بدأت رحلة العذاب بعد ذهاب أمي ،  أعلنت الزوجة الجديدة لأبي الحرب علينا، لم يدافع الوالد عن أولاده ، التزم الصمت ، ترك امرأته تتحكم بأولاده حسب هواها . مرة خرجت من الغرفة إلى المطبخ لأحضر طعاما لأخي ياسر ، أخذت الطعام مني وأعادته إلى البراد ... متذرعة أن الطعام على العشاء فقط . وقالت لي : دعيه يجوع ليتعلم النظام ، بقي الطفل يبكي طويلا يريد الطعام .
أم أنسى أخي يامن ، الذي مات بسببها .. وذرفت الدموع بسخاء وبحزن .. أية أمرأة تلك التي تقتل الطفولة والبراءة ؟. لا زلت أذكر رغم صغري عندما أمسكت لعب أخي الصغير وحطمتها بحجة أنها توسخ البيت ،  بكى الطفل بكاء مرا تنفطر له الجبال .. كانت تغلق الغرفة علينا في الليل ومرة أراد الصغير الخروج إلى الحمام ، وطرقت الباب بقوة ، فتحت الباب قالت ماذا تريدين ؟ قلت أريد أن آخذ أخي إلى الحمام ليتبول .. صرخت بوجهي بصوت مزعج ورفست الصغير على بطنه بقوة ، ثم راحت تقرصه في أنحاء متفرقة من جسده وهو يلتف حولي وعندما حاولت حمايته قامت بضربي ، وقالت له : هيا نم .. لم نستطع الكلام مسك الصغير بطنه حتى الصباح .. عندما استيقظنا من نومنا وجدناه في حالة صعبة توفي في المستشفى بعد تمزق المثانة ... ولم يحس الوالد العزيز بظلم امرأته ، أغمض عينيه واستسلم لكلامها وتفسيرها .. كيف أنسى ؟ كانت تغار مني ، لأني الصورة الجميلة لأمي ، يكفهر وجهها إذا ما وجه أحد إطراء لي أو لأخي ....لن أنسى السنوات الصعبة التي عشناها ، لقد أدركت أن صوتي المكتوم سيدوي يوما، وينطق الحقيقة ويفضح امرأة بغية  ، اسمحي لي يا أختي فهذه هي الحقيقة.. ولولا عمي الذي أصر مع جدتي على أخذنا من والدي بعد أن هدده بالشكوى على امرأته لما انتهت تلك المحنة .. ما قلب تلك المرأة وهي تمزق كتبي ودفاتري ؟ .. لن أنساها ما حييت ، ولن أسامحها ، من أجل براءة يامن ، ومن أجل طهارة أمي. أما أبي يكفيه عذاب الضمير الذي سيرافقه طوال حياته .. لقد فقدناه للأبد .. راحت تبكي وأحست بخطوات تقترب  منها،إنها خطوات عمها ..وضع يده على كتفها وقال : الدكتورة تبكي ، 
لا يا ابنتي .. أنت عندي بكل الدنيا ،أنت مثل نعمت .ثم حضنها وقادها من يدها وقال : أتنامون في المزرعة أم ننزل إلى حلب ؟ الخيار لكم . اتفق الجميع على النوم في المزرعة لم يترك العم ابنة أخيه في حزنها .. قطع الحزن بفكاهات حلوة أضحكت الجميع وسهر الجميع لساعة متأخرة من الليل .

..... زادت الأيام من صلابة لارا ،كانت أكثر إحساسا من أخيها الذي كان يميل إلى التسامح مع أبيه ، لم تكن تكره الحب ، صحيح أن أذنيها لا تسمعان كلمات الحب ، لكنها كانت تعرفها وتتحسسها بقلبها . وقد تمتعت بعقل كبير يشهد عليه الجميع .. فحازت على احترام الأسرة من عمات وأعمام .. كيف لا وهي على أبواب التخرج من الجامعة قال لها عمها : سأشتري لك عيادة جميلة في أي مكان تريدين .. سأعلق عليها يافطة كبيرة تحمل اسم الدكتورة لارا.
هزت رأسها بتغنج ودلال أمام عمها الذي عوضها عن حنان أبيها، وتورد خداها من السرور
ولكن كانت تضع هدفا في نفسها البحث عن أمها بأي وسيلة كانت ولكن بعد التخرج 
.... وصلت لارا إلى بيروت مع أخيها ، لأول مرة ترى بيروت . سمعت كثيرا عن المدينة التي تعشق الجمال والحرية ، فلاشيء ممنوع في بيروت ، جالت في شوارعها تتمتع بجمالها وغرابتها . 
استأجر الاثنان غرفة في فندق على شاطىء البحر.. وبدأا يسألان عن أمهما ويبحثان كلفوا شخصا يبحث عن الاسم والعائلة ويأتيهم بالخبر ،مقابل مبلغ مغر من المال ، كان الشخص يعرف كل الأماكن في لبنان بحكم عمله في الفنادق بعد أيام جاءهم بالخبر اليقين .. المرأة تعيش مع زوجها في جنوب لبنان ، وهي منطقة مشتعلة بالمقاومة ضد الوجود الإسرائيلي
وتعهد الرجل بإيصالهم إلى البيت سالمين .
ركب الثلاثة سيارة خاصة انطلقت بهم نحو مدينة صغيرة في الجنوب .. كانت لارا تتطلع من نافذة السيارة إلى أشجار الأرز وترسم في مخيلتها صورة اللقاء .. أوصت أخاها أن لا يعرف بنفسه أولا ويتركان المجال لأمهما تتعرف عليهما.. احتشدت العواطف في صدريهما وشعرت لارا باضطراب دقات قلبها كلما اقتربت السيارة من البلدة .
وصلا الاثنان أمام الباب قبل غروب الشمس وجدا بيتا كبيرا صفت أمامه الكراسي وكانت هناك أضواء كثيرة المشهد ينبىء عن فرح في المنزل .. لم تعد لارا تعي شيئا ، مسكت أخاها من يده ودخلت المنزل من غبر استئذان .. فوجىء الجميع بالموقف قالت امرأة وقد نظرت إلى لارا : سبحان الخالق يخلق من الشبه أربعين إنها زينب . صورة عنها ، وجم الاثنان وتوقفا ولم ينبسا بكلمة واحدة .. اندفعت امرأة جميلة من بين الحضور وقد طار صوابها .. وقفت أمامها ثم صرخت بصوت محزون لارا وانكبت على البنت تعانقها وهي تبكي بكاء الأطفال ..ثم اندفعت نحوابنها تعانقه وتردد: أنت يامن فقال لها: أنا أكرم .
أبكى الموقف الجميع قصة أغرب من الخيال ، أغلب الحاضرين لا يعرف أن زينب كانت متزوجة في سورية  .... كان الموقف حزينا ومؤثرا يعجز القلم عن وصفه ، وتقف الكلمات حيرى في التعبير عن الموقف الإنساني .

هدأت لارا واستقرت نفسها المضطربة ، بعد اشتعال قلبها لسنين عديدة من العمر ، وعاد إليها الاطمئنان لقد حقق الأخوان حلمهما برؤية أمهما، وعادا إلى حلب ليمارسا حياتهما الجديدة .

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

ماللوطن... عبد الرزاق سعدة

سيد قلبي... ياس ياسمين

الحسود..خواطر بن قاقا