الخطيئة… قصة للكاتب بركات الساير العنزي

الكاتب القاص : بركات الساير العنزي
من مجموعتي القصصية حوار الطرشان
الخطيئة .   ح4

عادت الأسرة إلى مدينتهم الصغيرة  ( تل الرمان) وأقام الوالد خيمة كبيرة يستقبل فيها المعزين الذين توافدوا من كل مكان ، مبدين أسفهم وحزنهم على المصاب الكبير .
تزوجت أغاريد من وليد بعيدا عن أهلها وأقاربها ، لم تحظ باحترام أحد من أهله، ووجدت نفسها امرأة بلا كرامة وقد زفت إلى وليد ، على عجل وبحفل بسيط .لم يعد باستطاعتها الرفض أو التأخير ، وهكذا وجدت نفسها زوجة لرجل ظنت أنه سيعوضها بحبه عن الأهل والأخوة ، وستعيش قصة حب أشبه بقيس وليلى ، وكثير وعزة .
أمضت عشر سنوات مع وليد كان يعاملها بقسوة وينعتها بكل الصفات السيئة ، أنجبت ولدين وابنة واحدة منه ، حاولت أن تنسى همومها من خلال أولادها ، ومن خلال عطائها كمدرسة لمادة اللغة العربية في مدينة منبج ، ولكنها كانت تحس أن القهر يفترسها ، وأن زوجها يذبحها كل يوم  لقد قتل البسمة في وجهها ووجه أطفالها .
في كل يوم تزداد ندما ، ضحت من أجل شحص لا يستحق إلا القتل ، أدركت تماما لو كان يحبها لما شجعها على فعلتها ، الذي يحبب يضحي من أجل حبيبه ، ولكنه دفعها إلى الهاوية ،
لم تحس بخطئها إلا بعد فوات الأوان ..ظنت أن أباها سينسى ويصفح عنها  ستتلقاها أمها بالأحضان بعد فتور الغضب .. تصرفت تصرف الطائشين ولكن ألم تكن طائشة في حياتها ؟!
دخل وليد البيت وهو يترنح ويشتم ويسب بألفاظ مقذعة كعادته ، اقترب منها ورائحة الخمر تفوح من فمه ، شعرت برائحته كرائحة الخنزير، شتمته في أعماقها، ورمقته بنظرة احتقار وازدراء . أرادت الابتعاد عنه ، ولكنه مسكها من شعرها ، لازلت ترتدين ثوب البيت أيتها المأفونة ، أيتها الخطيفة ..أحست بالإهانة ، هذه الكلمة تجرح أعماقها ولكنها لا تستطيع الدفاع عن نفسها، كرر كلماته فتركته ، وذهبت إلى الغرفة الثانية لتنام مع الأولاد ... وارتمى على الفراش مثل الثور !
...اندست في الفراش بين أولادها، نظرت إليهم نظرة عميقة،و شعرت بالألم يعصر فؤادها وكأنها تراهم لأول مرة بكت من أعماق قلبها، أرادت أن تغسل حزنها ، لا بل تطهر نفسها ، ولكن كيف العمل ؟ لا سماء تظلها ولا أرض تقلها ، البكاء أفضل شيء لتطهير النفس .
اشتاقت لأبيها وأمها وإخوتها ، لا سبيل لرواء الظمأ غير النوم والأحلام .
......حاول أبو نضال نسيان ماضي ابنته ، أراد أن يقنع نفسه أن أغاريد قد ماتت ، لكنها لم تمت في أعماقه ، آثر السكوت أمام ورود اسمها ،                            لا يزال يرى أغاريد المتمردة البريئة أمامه تلعب وتضحك ، تطلب منه الفلوس بتغنج ودلال  .. وامرأته تردد أفسدت البنت يا معتــز . 
  ماتت أغاريد أمام الناس ، لكنها حية في أعماقه خالدة في ذاكرته ، آه أيتها الدنيا تعطين القليل وتأخذين الكثير نظر إلى الشمس وهي تميل  إلى الغروب ، وتنهد بعمق، المعركة تميل لانتصار الظلام . نعم ولكن الشمس ستنتصر في أماكن أخرى ، هذه الحياة المعركة مستمرة بين الخير والشر.. هل ستمح السنون صورة أغاريد ؟.. لا سيبقى اسمها ينبض في قلبه حتى على فراش الموت ، أغاريد في قلبه كالبركان لن يخمد أبدا ولن يهدأ ... أغاريد تقرب الشيخ المسكين من عتبة الموت . قطعت أم نضال صمت الوالد الحزين . تقدمت نحوه بخطوات مرتجفة ، وببكاء دفين قائلة :
- بماذا تفكر يا أبا نضال ؟  ألا تحافظ على نفسك وتدع عنك الهموم ؟
- وهل نسيت حتى أنسى مثلك ؟
-لا ورب العالمين ... والتقت عيناها بعيني معتز ، واختزلت العينان كل اللغات ، واستندت إلى كرسي بجانبها، تحاول التخفيف عن زوجها  !!
......دخل وليد البيت والشرر يتطاير من عينيه ، وصاح بزوجته صارخا ، أنت يا يا... 
- نعم تكلم ، أظن أن لي اسما تناديني به .
-لا ليس لك اسم عندي ، أنت لا شيء عندي .
-هل نسيت فضلي ، وتضحيتي ؟
- بل قولي عارك .
-حقا إن كان هناك عار ، فأنت العار . العار عندما تزوجتك ، يا ليتني مت قبل ارتباطي بك، ولكنك كنت الشيطان نفسه .
-ولم لا تغسلين العار ؟!، اذهبي إلى أهلك ، أنا مستعد لطلاقك ولكن اسمعي ، سأتزوج بعد مدة بسيطة ،وخرج مقهقها ساخرا .
شعرت بالمهانة الكبيرة ، وأنها لم تعد تحتمل الإهانات ! أحست بجرس الخلاص يدق ، وأن الزمن يقترب من النهاية بسرعة ، ولا بـــد للكاتب أن ينهي روايتها ..بدأ هاجس مرعب يقترب منها ، ستطهر نفسها ، وستغسل العار من أجل أولادها المقهورين.
ومن أجل أبيها عندما كسرت شموخه .ومن أجل أمها عندما سحقت قلبها .
وتذكرت أمها ، أماه أين أنت ؟ أنت غاضبة ! كم أنا بحاجة إليك ! تعالي تعالي . أريد أن أرتمي في حضنك كطفلة صغيرة ، فتواسيني بالكلمات قبليني يا أماه لقد سحقتني الأقدام الدنيئة.
أه لو تريني فقد ذبل الجسم الناعم وذاب كالشمعة المحترقة . طار الكرى من العيون .ألا أستحق البكاء ؟! سأبكي على نفسي .
تناولت ورقة وراحت تخط عليها كلمات معبرة :
((أبي العزيز  ...أمي الحنونة .. أولادي الأعزاء   .. من أجلكم جميعا قررت الثأر لكرامتكم ،أنتم من يسكن كياني .. وأنتم من يرسم الفرح والحزن في قلبي ، بعد الموت  .ارسموني بسمة في مآقيكم  وفي وجدانكم . ربما كنت عاصفة هوجاء في حياتكم ولقد آن الأوان للعاصفة أن تهدأ وتستريح .
الخطيئة أحرقت عمري . أنتظر سماحكم وأعشق همسكم عند قبري . سألتقي بكم في دار أخرى عند رب رحيم ، لا يحقد  ولا يمن .انتهى زمني، وسأعود إليكم في مرسى آخر ، وسأبحث عن السعادة عند شواطىء الصدق, في عالم آخر . سأبوح لخالقي ما كتمته عنكم ، كل ما أرجوه أن تسامحوني .))
... وضعت الرسالة في مغلف ، ثم لبست ثيابها وخرجت قاصدة صديقتها سارة ، التي تسكن في الطرف الغربي من مدينة منبج .
استقبلتها سارة بالترحاب والتودد والسؤال عن الأحوال ،وبادرتها أغاريد :
-اسمعي يا سارة سأكلفك بأمانة ، أمانة غالية ، فهل تحفظين الأمانة ؟
-لقد ملأت قلبي بالخوف يا أغاريد .. أنت تعرفين معزتك عندي !
- هذه الرسالة تحفظينها عندك ، إن حصل مكروه لي  فأرسليها بالبريد لأهلي .
- خرجت أغاريد من سارة وأحست بالدماء تتدفق من عروقها ، بل تريد أن تتفجر ، وترى الدنيا قاتمة اللون ، أخذت تسود في عيونها ولا تشاهد إلا زوجها مضرجا بالدماء .
دخلت البيت ، قدمت لأولادها الغذاء واحتضنتهم طويلا تودعهم الوداع الأخير . دخلت غرفتها وقد أحضرت سكينا كبيرة وأخفتها تحت الفراش ، وجهزت فأسا لديها وضعتها تحت السرير.
.... حضر زوجها بعد منتصف الليل ورائحة الخمر تفوح منه وكالعادة ، بدأ بالسباب والشتائم الجارح ، اقترب منها ، غاضبا، وهو يسمع ردها العنيف والتوبيخ له .. طار الشرر من عينيه.
يا ابنة الل...، ولكنها لم تدعه يكمل كلامه، تناولت الفأس وضربته على رأسه بقوة، ترنح ولكنه لم يسقط ، سحبت السكين من تحت الفراش وتقدمت نحوه وغرست السكين بصدره فسقط مضرجا بدمائه .سمعت خطو أقدام نحو البيت خرجت مسرعة ، لا تلتفت وراءها كانت تركض مذعورة في شوارع المدينة ، تريد المخفر
ولكن شخصا قد لحق بها ويركض وراءها ، التفتت إليه كان القادم أخا زوجها ، ركضت ولكنه صوب نحوها بالمسدس الذي كان يحمله فسقطت في بركة من الدماء تطهر نفسها ..

مدت الأم يدها تتحسس الجسد الناعم الذي كان يذوب في الحرير ، وعطر الأزاهير، وطبعت على جبين الفتاة المتمردة قبلة ، لتهدأ روحها .
اختزلت أغاريد الزمن كما أرادت..ثمة أشخاص وقفوا على جثتها في المشرحة، وبكوا عليها بكاء مرا ، تقدم والدها ، ولكنه لم يقبلها ، نظر إليها نظرة أخيرة.. واراها التراب وقرأ على روحها الفاتحة ، ماتت الشجرة دون أن تورق ...! ولكنها بقيت جذورها تذكر الآخرين بمكان وجودها  .

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

ماللوطن... عبد الرزاق سعدة

سيد قلبي... ياس ياسمين

الحسود..خواطر بن قاقا