سويعات قبل الرحيل… كتبها الاديبة. بهيجة بن موسى

سويعات قبل الرحيل

أتذكّر ما قاله الطبيب في آخر زيارة لي لعيادته، ومازال صدى كلماته في أذني،ومازلت أذكر ملامحه الحزينة التي حَاوَلَتْ جَاهِدَةً تصنُّعَ الهدوء وهو يمسك بأوراق فحصي ويلقي عليها نظرة أخيرة يائسة حاول إخفاءَها وهو يقول:" سيّدتي،انت إمرأة قويّة،مؤمنة بالله وتعلمين أنّه لا رادّ لأقداره.... أنا مجبر على مصارحتك بأنّ المرض في مراحله الأخيرة و.....
قاطَعْتُهُ بكل ثبات وبسؤال واحد:"كم بقي لي من الوقت حسب تقديرك؟" .
أجاب ورأسه في الأرض:"هي بضع أسابيع والله أعلم والأعمار بيد الله "
صاَفَحْتُهُ وشَكَرْتُهُ على مجهوداته وكنتُ مغادرة عندما سمعته يقول:"إستمتعي بوقتك قدر إستطاعتك.
إبتسمْتُ وغادرْتُ مكتبه وقد نويْتُ أن أعمل بنصيحته.

حينها كان الفصل ربيعا فقرّرْتُ أن أختلي بنفسي فركبْتُ سيّارتي وإنطلقْتُ إلى الغابة....
نزلْتُ ورحْتُ أتمشّى تحت أشعّة الشّمس الدّافئة فقد أردْتُ أن أستمتع بسحر الطّبيعة قبل أن أفارقها....
يا الله...يالجمالها الفتّان...وكأنّني أتعرّف عليها لأول مرة وكأني ارى الطبيعة بعين جديدة...أزهار متفتّحة تعبق بأريج ينعش الرّوح وبتلات ملوّنة تتساقط من أشجار اللوز والمشمش
كما لو أنّها ترحّب بي في عالم الهدوء والرّاحة...
أخذْتُ نفسًا عميقًا وملَأْتُ رئتايا من ذاك الهواء المنعش عله ينقّي داخلي من الأحزان .....
وفي لحظة ما عدت أتحكّم في جسدي فنزعْتُ حذائي ورميْتُهُ ورحت أتلمّس بأصابع قدميّ طراوة العشب الأخضر
وكم تمنيت لو أنّ هذه اللّحظات خالدة فقد سُلب عقلي وخُطفت أنظاري من سحر مشهد رأيته يوميّا ولكنّه اليوم بدا مختلفًا...اذ بدت السماء كساحة مهرجان تزيّنت بالمواكب والرّقصات،وإرتدت أميرة الكون ثوبا من الياقوت الملطّخ بالدّم القاتم مرصّع ببياض غريب وأسود داكن...
رقصتْ هذه الجميلة مع حبيبها ملك الظّلمة الذي طُرِدَ من القلوب ولكنّه يعيش في حبّ أميرته... وجه مميز للطّبيعة
فمن ناحية هو مشهد إمتزجت فيه ألوان الغروب الساحرة لتضيف ذاك الإنسجام والتناغم بين مكونات مختلفة..ومن ناحية أخرى هو مشهد حزين يهزّ القلب حسرة على الأحبّاء الذين فرّقهم الزّمان...
إرتسمت على وجهي ابتسامة رضا لأني شاهدت لوحة فنيّة رائعة أثارت في كياني مشاعر متنوعة؛فرح وحزن ،حب وحنين،دهشة وإعجاب...
كما لو كان هذا المشهد يقصّ حكايتي مع الكون فكلّها أيّام وتغرب شمس عمري عن هذا الوجود...
غابت الشّمس وعانقت الظّلمة في إستسلام فركبت سيارتي وعدت إلى المنزل لأعانق نهايتي بنفس الإستسلام.

قضّيت أيّامي الأخيرة في زيارة الأصدقاء وتفقّد الأقارب وكأنّي أودّعهم ولكنّي لم أخبر أحدا بوضعي الصّحّي فلا أحبّ أن ألمح في عيونهم تلك الشّفقة المقيتة....
عشت حياتي بشكل طبيعي.ضحكت ومرحت كثيرا...
ولمّا تعكّرت حالتي وشعرت بالموت يدبّ في أوصالي قصدت المصحّة لأقضي ساعاتي الأخيرة تحت الرعاية الطّبّيّة.

حينها فقط أجريت ذلك الإتّصال الذي أجّلته منذ البداية.
إغرورقت عيناي بدمعٍ حارق حين سمعت صوته،عجزت عن الكلام وأنا أستمع إلى حديثه ولومه وعتابه:"لم غبت عنّي كل هذه الفترة؟
كيف استطعت الإنقطاع عن الإتصال بي؟ 
هل أمكنك العيش من دوني كل هذه الأسابيع؟..."
    ولمّا ألحّ في السؤال أجبته بكلمة واحدة:"أنا أحتضر"
ساد صمت رهيب ثم واصلت كلامي  وطلبت منه أن يفتح "الكاميرا"ليراني في آخر لحظاتي ..وفعلا رآني وأنا على فراش الموت وكانت الصّدمة بادية على ملامحه وعجز عن التّعبير سوى بدموع تنهمر غزيرة ترافقها شهقات متقطّعة
فقد رآني موصولة بأجهزة الإنعاش الطبيّة....ثمّ إنقطع الإتصال.
وهو اتصال لم يكن مسموحا من الأساس ولكن ملائكة الرحمة ساعدتني ليكون وجه حبيبي وصوت حبيبي آخر عهد لي بهذه الدنيا الفانية.
فشكرا لمن ساعدني على تسجيل مذكراتي في آخر ساعاتي.

                                           بهيجة بن موسى

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

ماللوطن... عبد الرزاق سعدة

سيد قلبي... ياس ياسمين

الحسود..خواطر بن قاقا