ضباب… قصة للاديب ايمن حسين السعيد

*قصة قصيرة*..ضباب..بقلمي.أ.ايمن حسين السعيد..الجمهورية العربية السورية.
٦/٣/٢٠٢٠
ينزح أمين داخل وطنه عن أرضه من ضيعته نزوحاً مختلفاً عن نزوحاته السابقة فيما مضى من عمر الحرب والمأساة السورية.
تتوالى إتصالات إخوته وأخواته وأولاده له عبر وسائل التواصل الإجتماعي..إذ هم الآخرون مشتتون في بقاع الدنيا...في الدول العربية والأوروبية ليطمئنوا عن أحواله ،خاصة وأن الإعلام لديهم في حميم مستعر لهبه، عما يجري من معارك حربية مابين جيش الدولة السورية وفصائل المعارضة المتمردة المسلحة في منطقة الشمال السوري وخاصة في محافظة إدلب وما حولها..
يرى أولاده وقد تقدم بهم العمر وكأن لحظة وداعه لهم إلى بلاد المهجر الأوروبية كان في الأمس القريب، وكأن ذلك الأمس قد عمر بيتاً تجمدت حياله الحياة.
هول مايجري من مآسي على المدنيين الأبرياء الذين هم ضحية هذه الحرب على مرأى من عينيه يلوح في وجهه وفي جدران بيت بسيط اتخذه مسكناً له على حدود وطنه مع تركيا آثار أمواج خفية صامتة مزمنة وكأنه لوحة لوطنه بأطلاله المدمرة ودهشة ديمومة وكثرة الموت الذي بات يتمناه لم يحن دوره في الوصول له وزيارته.
يستنهض همته باندفاعة نزقة في دوامته الحرى فيتملى وقته وأيامه تلو الأيام والشهور تلو الشهور والسنين تلو السنين فتمتص منه بقدر مايمتص منها من عكر لا صفاء فيه.
فترى وجهه مشرعاً تدفع ملامحه ريح شيخوخة مبكرة فشعر رأسه وذقنه قد غزاهما الشيب والبياض بكثافة فتخاله لوحة ترمز إلى حجم وعمق وألم المأساة بكل تفاصيلها ومعاني ألوانها..
تعرض لفقد أحبة له بالموت وبالقتل وآخرون نزحوا بأرواحهم وثيابهم عنه، وأملاكه وأرزاقه وأراضيه شبه مدمرة أو مبتورة من على وجه الأرض كأشجار الزيتون.
يحاول تدارك خسائره في كل نزوح وعودة مابين مناطق سيطرة الدولة ومناطق سيطرة المسلحين ولكن كل مايفعله من بناء يتهدم بفعل الحرب فيعود إلى نقطة الصفر ومادون الصفر بينا ذاته بلا ماهية تسعفه على التماسك في دوامة حرب لا أفق لنهايتها.
يشده حاضره المزري إلى أمسه الجميل الجوهر والصقل..بينا حاضره مشتتاً لاثبات فيه نحو منحى صقل مستقر ودائم أبداً.
أمين هذا يرمز إلى كل سوري في انفراط عقد عائلته وشخصيته وضياعه الذي يتضاعف في هذه الدوامة من اللاثبات والحرب التي تخلف موتاً وتشرداً وقهراً وأحزاناً فتتجسد معاناة وطنه والسوريين جميعهم في وجهه وفي زمن يتدافعون فيه هروباً نحو الاستقرار ونهاية سعيدة في آخر نفق لا وجود لوميض شعاع مرئي له بمدى منظوره الآني والحاضر.
فوجوده في مثل هكذا حياة قد حطم فيه ماهيات ذاته وأحالها إلى تشتت يستحيل عليها أن تتشكل بأشكال لها مظهراً ثابتاً، فلا يلوح فيها تجوهر وصقل إلا جوهرالمأساة وتوالدها وديمومتها بأشكال وألوان عديدة منخفضة في وتيرة الكارثة تارة وتارة مرتفعة بهولها وحجمها.
يحس بحرارة الذل في عروقه وموجات متتالية قادمة  فيها الهلع والوجل والفقد تلو الفقد والخسارة تلو الخسارة والنزوح تلو النزوح بينا الجزر يأخذ معه كل هذه الأشياء عند عودته لمنزله وأرضه..رغم عدم وجود بهجة إشراق أي شيء محبب لقلبه في دوامة هذه المأساة.
فنار دمه بوهج الشمس رغم برودة شهر يناير  ولكن رعشات باردة في جسمه تطفئها فيخال نفسه مشتتاً كضباب جبال ضيعته الذي ماعانق يوماً ذروتها رغم توقه للوصول لقممها حتى يخيل إليه أن الدنيا نفسها عادت إلى الضباب الذي هو عنصرها الأول وجوهرها.
في غمرة نزوحه وتشتته هذا يجتاحه هذيان حنين إلى دفء الحب والعائلة والأقارب والجيران فيولد في عزلته طيوفهم ويستجديها ..فتارة يضم زوجته الميتة وتارة أولاده وتارة يزوره في أحلامه أحد أصدقاء أو صديقات الدراسة الذين توفاهم الله فيرى نفسه معهم في أماكن محببة لقلبه في أحد مطاعم أو مقاهي حلب أودمشق او حمص أو اللاذقية...ولا غرابة في ذلك فذاته كذات أي إنسان سوري يتفانى من أجل من يحب وكل هؤلاء الطيوف والمارون في أحلامه يتمثلون له بشراً سوياً.
يقود سيارته من سلقين باتجاه بلدة دركوش الجميلة بقصد رؤية أحد أصدقائه الأحياء كي يستأنس في وحشة مكانه ويشعر أنه حي ولم يمت بعد..
على جانبي الطريق الرديء انتشرت كنقاط علام كثيرة مخيمات النازحين من جحيم الحرب من الأسفل حتى أعالي الجبال.بعضها بيضاء اللون وبعضها زرقاء وبعضها بسيط جداً نصبت من بطانيات من الصوف رمادية اللون..كثرة السيارات جعلته يقود بكل تأن وأعصاب مشدودة...فبالإضافة إلى السيارات يوجد بشر واطفال كثيرون يسيرون على جانبي الطريق مع السيارات فذاك ينقل سطلا من الماء وذاك بيديه حزمة من حطب الزيتون وآخر بيده وجبة طعام استحصل عليها من منظمة إغاثية تعمل في مناطق الحروب كان قلبه يتقطع على أطفال هيئتهم جد مزرية وألبستهم متسخة غير عابئين بقر البرد في شهر يناير وتلوح على قسمات معظمهم ابتسامات طفولة بريئة..ولفت نظره طفل بعمر الثالثة من عمره يبكي بينما إخوته الأكبر منه متحلقون حوله تارة يقبلونه وتارة يلفونه ويحاولون مواساته ولا يوجد أم أو أب حولهم..
-تباً للإنسانية المتوحشة...لعنة الله على الحروب والأحقاد..لا حول ولا قوة إلا بالله..
حقول الزيتون على ضفتي طريق سلقين دركوش هي الأخرى لم تخلو من المخيمات..وبجانب كل خيمة خيمة صغيرة (تواليت)بسيط لقضاء الحاجة..
ما ذنب هذه المئات من الآلاف حتى يكون مصيرها هكذا وجلهم كانوا أهل نعمة وعز قبل هذه الحرب اللعينة.
يصل دركوش عبر جسر بيزنطي قديم يركن سيارته جانباً ويترجل منها..يرمي بنظره إلى نهر العاصي المستفيض بمياهه فهديرها يدوي في أذنيه وهو ينساب باتجاه سهل العمق الواقع ضمن الأراضي التركية.
توسوس له نفسه تغويه وتغريه بإلقاء نفسه في النهر..
لكنه يضحك من نفسه ساخراً فلن يكون مصيره الموت بالغرق لأنه يجيد بمهارة السباحة...
-لما آلام الوطن وشعبه كلها فوق كاهلي..وهل لهذه الحياة معنى؟وإلى متى تركن للسلام زوابع عواصفها.؟
تنقل في نزوحاته الى معظم محافظات الوطن انتقل من ضيعته محمبل ثم اريحا ثم حلب ثم حماه كان يجد صعوبة في العيش في كل مكان ينزح إليه..فبسبب الحرب انفلت الأمن وظهرت عصابات الخطف ومافيا احتكار الغاز ووقود التدفئة بالإضافة إلى غلاءفاحش في أسعار مقومات معيشة الإنسان.
وارتفاع أسعار أجرة البيوت وتفشي الفساد وانتشار المخدرات وعصاباتها وعصابات السرقة..والخطف لطلب الفدية.
ففضل العودة لضيعته ومنزله الشبه مدمر وقام بترميمه بأبسط الأدوات وأقل التكلفة بسبب استمرارية القصف الجوي والمدفعي كونها تحت سيطرة المعارضة المسلحة..وكانت نفسيته تتحسن بسبب وجود بعض من بقي من أهله واقاربه وشغل نفسه بالعمل برزقه وأرضه وهوايته المحببة تربية النحل..
وحيداً بقي بعد أن أدى رسالته تجاه أولاده الذين أتموا دراساتهم الاعدادية والثانوية وصدق لهم شهاداتهم من وزارة الخارجية والمغتربين بعد ترجمتها من قبل ترجمان محلف..الواحد تلو الآخر ودعهم في مطار اللاذقية..وهو جداً سعيد لاستكمالهم دراساتهم الجامعية..فيأوروبا.كما أنه رغم معاناته يرفض عرضهم بلم شمله معهم مفضلاً البقاء في أرضه ووطنه...
فأوروبا لن تكون بلسماً شافياً له رغم توافر الأمان ورقي حضارتها...بل سماً بطيئاً سيقتله فالغربة عن وطنه هي هذا السم الذي لو أقدم على تجرعه لكان أشد فتكا لنفسه من ويلات الحرب نفسها فبقاؤه في الوطن بالنسبة له..هو خلود روحه ونفسه للسلام رغم الحرب و للراحة رغم مأساته وعذابه.
يلتقي صديقه بعد أن تواصل معه...في ساحة دركوش
يعانقه..عناقاً مطولاً
يتبادلان النظر مطولاً لبعضهما البعض.
-مختير كم كبرت
-ماشاء الله عليك يعني تفتكر نفسك شاب ابن أربعة عشر سنة...شيبك ووجهك يوحي انك في السبعين من عمرك...
يعرفه على ابنه...البالغ من العمر خمس وعشرون سنة
-ماشاء الله..أيدرس أم لا
-وصل بدراسته للسنة الثانية هندسة ميكانيك بحرية ثم توقف فقد منعته عن إتمام الدراسة بعد ان تم خطفه من قبل حاجز أمني على طريق اللاذقية كون هويته تشير إلى أنه من المحافظة الشريفة ادلب ..ثم يضحك مقهقهاً..
-وكيف أفرجوا عنه...
-دفعت لهم مبلغ ثلاثة ملايين ليرة سورية حتى أطلقوا سراحه على المضمون وكان الكفيل زميل لنا واسمه مرهج ألا تعرفه...
-بلى أعرفه
-مانسي الود...وبفضله ابني حي الآن بعد أن وضعوا سكيناً على رقبته للذبح .
-لا حول ولا قوة الا بالله..
-ماباليد حيلة خسارة شهادته أفضل من خسارته بالموت..ثم أنني زوجته وأصبح لديه ولدين صبي وبنت...الحمدلله..
يربت على كتف ولده..
-كم تشبه الغالي أباك حماك الله عين عمك.
-الله يسلمك عمي...كم ذكرك لي والدي ولي الشرف بمعرفتك..حياكم الله..
-الله يسلمك ويحفظك.
-تفضل الغداء بانتظارنا....
-هل المنزل بعيد من هنا....
- كيلومترات قليلة ونكون في البيت بإذن الله
-كيلومترات..لما...
-لأني أسكن في قرية هجرها أهلها..بسبب الحرب واسمها الجميلية وهي ليست بعيدة من هنا فقط الحق ابني..
-توكلنا على الله...
يركب الابن الدراجة النارية...بينما يصعد الأب مع أمين
في السيارة ...
كان الطريق ضيقاً وقديماً عبر التلال والجبال إلى الجميلية وكانت أشجار الرمان العارية الأوراق على جانبي الطريق  وخلفها كروم من أشجار الزيتون يتخللها بعض أشجار الجوز والتين والمخيمات للنازحين من مناطق الحرب في المعرة وخان شيخون وجبل الزاوية وسراقب وجبل الأربعين بارزة كشيء نشاز وسط بهاء لون الزيتون الأخضر .
كانت دراجة ابنه النارية تصعد الطريق إلى القرية المتربعة على جبل.يطل على أراض تركية بالأصل هي سورية ،وكان أول ما رأه في دخوله القرية نبع ماء طبيعي قديم محاذيا لجبل ومسقولا بالإسمنت ومن حوله الحجارة بشكل متسق تتربع من حوله الأشجار الحراجية وجمهور من النازحين يملؤون منه الماء...
وتسلق بسيارته صعوداُ إلى أعلى خلف دراجة ابن صديقه..حتى وصل إلى منزل مكون من طابقين.....
طلب صديقه ركن السيارة في فسحة من الأرض بعيداً عن الطريق الضيق لإفساح المجال للسيارات والمارين جنوب البيت وبجانب مولدة كهرباء تغذي الفرية بها عند المساء..ولساعات محدودة...
كان البيت مكوناً من طابقين وتسكنه عائلة صديقه في الطابق الثاني الحديث والملبسة جدرانه بحجر سوري أرمنازي أصفر وغالي الثمن وعائلة أخرى في الطابق الأول القديم وهي من احدى قرى جبل الزاوية.
كان قد استأجره ممن تسمى المكتب العقاري لهيئة تحرير الشام وبسعر ليس مرتفعاً كما جميع بيوت القرية التي هجرها أهلها.خوفاً على أرواحهم منذ بداية الأحداث في سورية....
تبادل وصديقه...الأحاديث وذكرياتهما أثناء الخدمة العسكرية وكل يسأل الآخر عن أصدقاء لهم ووضعهم أهم ميتون أم في الحياة أم في النزوح أم في بلاد المهجر الأوروبي وما حلت بهم الأقدار..بينما كانوا يشربون الشاي والسجائر..بينما كان ولده يمد سفرة من المشمع لوضع صحون الطعام عليها والذي كان سمك السلور المقلي مع الطرطور والسلطات وزورقاً كبيراً من الأرز بلحم الفروج الأبيض اليخنةالمطبوخةبالفروج والبصل والجزر والحمص.
لم تكن نفسه بشهية للطعام رغم رائحته الشهية ومنظره المغري للنهم...ولكن..انشرحت به نفسه...لأنس صديقه وأولاده الثلاثة من حوله...خاصة وأن الأقدار جعلته يأكل وحيداً منذ ما يقارب الثلاث سنوات في بيته المهجر منه أو في المطاعم..أينما حل..بسيارته التي كانت كمنزل ثان له.. فتنمسح العتمة عن وجهه وتردم بعض السعادة عليه تحفير المأساة فيركن إلى بعض الطمأنينة في بيت صديقه الذي لا يعلم أن ساكنوه المهجرون منه هم أحباب له أيضا....
فتنشط قواه وتتصاعد إلى واقع الحياة ليدخل في صلح معه...
-هي الأقدار توصل بالإنسان إلى حكمة في نهاية المطاف
قبيل نهاية نهاره يعود أدراجه مودعاً صديقه إلى مدينة سلقين...يصادف..امرأة على شارع الكورنيش تمشي بمفردها وهي في زمن شبابه كانت أحدى دفقات غزله اللامثمرة...
توقه للسلام والفرح والأمان....يدفعه للخروج من دوامته الحرى فيركن السيارة أمامها جانباً ويتجه صوبها..وهو يتمعن بابتسام لها...
هي الأخرى فوجئت به وسرت به كثيراً حتى كادت تعانقه بكلتا يديها ولكن غمزته العابسة نبهتها إلى أن تصحو....ففرملت وتوقها يفيض من عينيها...سروراً بلقيا..عزيز وغال بعد فراق استمر لأكثر من ثلاثين سنة خلت.
يتردد في التحدث ويحار فيما يفعل فتارةً يشفق على نفسه وتارةً يثور عليها
ولكن جمالها بعد كل تلك السنين حيث دفقان غزله في إثم الذكرى حيث حدود الزمن كأنها سراب ووهم فلا يدري أكان ما بينهما منذ زمن بعيد أم كان البارحة.
ويقوى عليه الوهم ولكن ثورة نفسه تغلبت عليه..يطرد المأساة من واقعه ويبني لبنات لحظاته على حقيقة الواقغ الآمن الذي كأنه لا وجود لحرب فيه فيندفع دمه إلى وجهه فيصبح كتفاحة تقطر احمرار لونها الأحمر.
يركبان السيارة ينطلق نحو تجديد ذكرى دفقات غزله أملاً منه في أن تصبح مثمرة، يتغلب على واقعه من حرب الحديد والنار والموت ودمار الحجر وكأن رايته تخفق معلنة انتصاره.
بقلمي..أ.ايمن حسين السعيد..سلقين.في/٢١/٣/٢٠٢٠..إدلب..الجمهورية العربية السورية.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

ماللوطن... عبد الرزاق سعدة

سيد قلبي... ياس ياسمين

الحسود..خواطر بن قاقا