ومازال نائما… قصة للاديبة مريم العلي

وما زال... نائما

" منذُ ساعةٍ وأنتَ تبكي يا بني .. ماذا تريد ؟."
خاطبتهُ بصوتٍ ينبعثُ من الألمِ المزروعِ داخلَ كيانها المقهورِ .. ماذا تفعلُ لهُ .. بدلتْ ملابسهُ .. أرضعتهُ .. أعطتهُ الدواء .. لكنهُ ما زال يبكي .. حملتهُ بين ذراعيها .. دارتْ بهِ الغرفةَ عدةَ دوراتٍ .. هدهدتهُ .. غنتْ لهُ بصوتٍ مجروحٍ .. قرأتْ بعضَ الآياتِ القرآنيةِ .. لكنهُ ما زالَ يبكي .
" يا إلهي ماذا أصابهُ ألا يتعبُ من البكاء .. أينَ تذهبُ بهِ في هذا الليلِ المتشحِ بسوادِ الحزنِ النابعِ منْ قرارةِ ذاتها المنهارة " .
لم تدرِ إلا وهيَ تنخرطُ معهُ في بكاءٍ مرير .. نظرتْ من خلالِ الدموعِ إلى الساعةِ إنها الواحدةُ بعدَ منتصفِ الليل .
" هلْ أطفالُ العالمِ كلهم مثلكَ .. أهٍ .. تعبتُ من الدورانِ بكَ ، قدماي لم تعدْ تحملني " .
وضعتهُ في السريرِ هزتهُ بعنفٍ .. لكنهُ ما زالَ يبكي .. تركتهُ وارتمتْ في سريرها دفنتْ وجهها في الوسادةِ ، وبكتْ بحرقة .
بعدَ فترةٍ من الزمنِ أحستْ بهِ يهدأُ شيئاً فشيئاً .. حاولتْ تهدئةَ نفسها وانتظرت حتى تأكدتْ أنهُ غطَّ في نومهِ رتبتِ الغطاءَ فوقهُ أطفأتِ النورَ وعادتْ إلى سريرها متعبةً مرهقةً .. حاولتْ طردَ الأفكارِ من مخيلتها لكنها ظلتْ تطرقُ ساحةَ الشعورِ وتلحُّ في الظهورِ إلى محتوى الوجود .
تجسدَ أمامَها زواجُها المبكرُ يعرضُ شريطاً لأولئكَ الذينَ كانوا السببَ في مسيرةِ حياتها بهذا الشكلِ البائسِ .. رنتْ كلماتٌ قويةٌ في أذنها لوالدها " المرأةُ خلقتْ للزواجِ والإنجابِ ، يجبُ ألا تعملَ خارجَ البيتِ ولا تتعلمُ إلا فكَّ الأحرفِ فقط "
ليتهُ يرى حالتها ليدركَ كمْ هوَ مخطئ .
والدتها تمنتْ لها حياةً أفضلَ عندَ زوجِها وحرمتْها حنانَها .. كمْ هيَ بحاجةٍ لمساعدتِها وتوجيهاتِها .. ليتها قريبةٌ منها .
زوجُها الغائبُ في هذهِ الليلةِ القاسيةِ بسببِ عملهِ والذي لا يسمحُ لها بمغادرةِ المنزلِ إلا برفقتهِ ورفقتُه نادرة .
بالأمسِ عندما ذهبا معاً إلى الطبيبِ من أجلِ الطفلِ قالَ لها عندما رأى الصغيرَ يبكي : اذهبي إلى البيتِ وأنا أشتري الدواءَ وألحقُ بكِ .. لكنها ضلتِ الطريقَ وعندما وصلَ إلى البيتِ ولم يجدْها أدركَ ذلكَ فخرجَ يبحثُ عنها .. لن تنسى مرارةَ ما حدثَ أبداً .
أمّا طفلُها الضعيفُ منذُ ولادتهِ بسببِ صغرِ سنّها ونحافةِ جسدها فإنّهُ سببُ شقائِها لا تعرفُ كيفَ تتصرفُ معهُ دائماً مريضٌ دائماً يبكي .
إخوتُها وأخواتُها رفيقاتُها .. وغفتْ أخيراً وهيَ تائهةٌ بينَ آلامِها وأفكارِها ودموعِها .
شعورٌ لذيذٌ خدرَ جسدَها ودعاها للنومِ من جديدٍ عندما فتحتْ عينيها وكانَ نائماً .. مرَّ الصباحُ هادئاً رقيقاً دونَ أنْ تشعرَ بهِ .. لكن الشمسَ نبهتها أنَّ الساعةَ أوشكتْ تنتهي منَ التاسعةِ وعليها واجباتٌ يجبُ أن تؤديَها قبلَ عودةِ زوجِها .
نهضتْ منْ سريرِها بهدوءٍ وهيَ تتمتمُ بالدعاءِ أنْ يبقى نائماً ريثما تنتهي من أعمالِ البيت .
العاشرةُ والنصف .. وما زالَ نائماً
المسكين .. تعبَ منَ البكاءِ والسهرِ .. أنهتْ أعمالها وأعدتِ الطعامَ وما زالَ نائماً .. بعدَ قليلٍ يصلُ والدُهُ وعليها أنْ توقظَهُ لتغيرَ ملابسَهُ وترضعهُ وتعطيهِ الدواء ..
اقتربتْ منَ السريرِ رفعتِ الغطاءَ .. ارتسمتِ الدهشةُ على ملامحِ وجههِا عندما رأتْ وجههُ مصفراً .. أمسكتْ يدهُ "إنها باردةٌ كالثلج "
متى تتجمدُ الحياة .. عندما يتجمدُ القهرُ .. عندما تتجمدُ العواطفُ .. عندما يتجمدُ الألمُ داخلَ الروح الإنسانية .. أمسكتهُ بكلتي يديها هزتهُ وهزتهُ وهزتهُ لكنهُ ما زالَ نائماً .
منْ داخلِها انبعثَ صوتُ صراخٍ قويٍّ  : لا ..  لا ..  ماذا حدثَ .. الغرفةُ تدورُ  .. لا .. الدنيا تدورُ  .. لا .. هيَ تدورُ .. وتدورُ .. وتدورُ .

*** *** ***
من مجموعتي القصصية "ظمأ فارغ"
الصادرة عن دار القدس عام 2016
مرم محمود العلي

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

ماللوطن... عبد الرزاق سعدة

سيد قلبي... ياس ياسمين

الحسود..خواطر بن قاقا