فتاة جارنا ابو ابراهيم

فتاة جارنا أبو ابراهيم
       -------------
هذه المرة قررت أن أكون مغايرا عما مضى ، فارتديت ثيابا خفيفة الوزن ، تركت شعري منكوشا على هواه ، قذفت بحقيبتي التي كانت ترافقني دوما في درج خزانتي المكسرة إلا قليلا ، لم أحمل أي شيء ، هكذا أنا في هذا المساء ، لربما يأتيني الحظ صاغرا .
انطلقت قدماي خفيفتان صوب الغروب الذي بدأ ينسكب من خلف الأفق الممتد عبر فضاء بلا حدود ، إنه شهر آذار ، حيث تتفتح الأزهار ، تبدأ الأشجار باكتساء ثوبها الأخضر الجميل ، بينما تحولت الأرض إلى هالة خضراء تعج بأنواع متعددة من الحشائش ذات الألوان الزاهية المختلفة .
كان الطريق شديد الجمال ، المياه تسري في شرايين السواقي ك شريان الدماء في أوردتي الخائفة من مجهول قد يهزني بأية لحظة ، كنت أحلم بلمسة من يدها ، أو بقبلة تأتي على حين غرة .
العصافير تلهو على جنباته دون اكتراث ، الفراش يعيدني إلى سنوات الطفولة الأولى ، كم تمنيت في ذلك الوقت أن أترك موعدي وألهو معه ولو ساعة من الزمن .
كم هي جميلة تلك الأيام التي غادرت بلا استئذان ، ولن تعود مهما كانت الظروف ، لعل هذا ما جعلني استسلم للقدر وأعيد حساباتي لأصل إلى هذا الزمن الذي أعيش فيه .
هناك على طرف الطريق كان جارنا ( أبو ابراهيم ) يتفقد حقل الحنطة ، حصانه منهمكا بتناول الأعشاب في مكان قريب ، مازال الزرع في ريعان شبابه ، ينمو رويدا رويدا منتظرا غبطة السماء وقدوم مطر آذار ، ألقيت السلام على أبو ابراهيم ، رد علي السلام  ودعاني لاحتساء كأس من الشاي ، كان قد صنع الشاي على بعض الحطب ، مما جعل الإبريق وكأنه أفريقي الملامح .
لم يكن أمامي إلا تلبية الدعوة ، فقد كنت أحب أبو ابراهيم وحكاياه الممتعة ، وأحيانا كثيرة يدفع لي بقطعة سكر من جيب سرواله الأسود ، ويردفها ببعض النصائح .
جرجرني بالحديث دون أن أدري ، فأخبرته بأني ذاهب للقاء فتاة هناك تحت شجرة الجوز العجوز ، طبعا كان يعرفها جيدا ، ضحك كثيرا وهو يجلس ( متربعا ) ، قص علي إحدى مغامراته العاطفية عندما كان في مثل هذا العمر ، بينما كنت احتسي الشاي وأنا أصغي لما يقوله بنهم شديد ( اسمع يابني ... لن تكون هذه الفتاة هي الوحيدة في حياتك ... سيمر عليك الكثير من النساء مع مرور الزمن ... عليك أن تحذر فالنساء جميلات لكنهن في ذات الوقت يخبئن لك مفاجآت لا تكن في حساباتك ) ... تململت في جلستي ، صمت برهة قصيرة ثم تابع حديثه ( هل ترى شعري ... أظن بأن تحت كل شعرة امرأة ما ... لكنهن ذهبن جميعا وبقيت آثارهن في ذاكرتي ... وبقيت واحدة فقط ) ...
كلماته كانت تصافح قلبي قبل عقلي ، لكن الوقت بدأ يضيق أكثر ، فما كان مني إلا أن شكرته على هذه الجلسة اللطيفة واعدا إياه بأن نلتقي مرات أخرى كي أستمع لمغامراته العاطفية .
عدت إلى الطريق مسرعا كي أصل إلى موعد فتاتي ، فقد كان اتفاقنا أن نلتقي على الساعة الخامسة مساءا ولم يتبق الكثير من الوقت ، حثثت خطاي نحو مجلس شجرة الجوز .
لقد وصلت قبل الموعد بحوالي خمسة دقائق ، تبادلت القبلات مع شجرتي الأم ، ثم تعلقت بالطريق الطويل الآتي من صوب المدينة .
امتدت عقارب الساعة ك عنق زرافة ، تجاوزت الموعد المحدد بربع ساعة ، كان قلبي يخفق بشدة ، ( هل ستأتي أم أنها ستفعل ك كل مرة ) ... سمعتني شجرة الجوز فضحكت ثم انزوت خجلى .
ساعة كاملة مضت ، مر الباص الأخضر بالقرب مني لكنه لم يتوقف ، رآني السائق فأطلق زمور الباص ، كان يستهزأ بي ربما ، وربما كان يواسيني ، لكنه لا يعلم لماذا أنا هنا ، ( الشباب يفهمون بعضهم دون أن يتحدثوا ) ... قلت في نفسي .
استسمحت شجرة الجوز بقطف ورقة منها ، وافقت دون تردد ... حملت الورقة ثم قررت العودة من حيث أتيت ...
عندما وصلت إلى حقل أبو ابراهيم صرخ علي ضاحكا : ( ألم أقل لك بأنهن يخبئن مفاجآت ... فالنساء هن النساء يا ولدي ) ...
------------
وليد.ع.العايش
١٤ / ٣ / ٢٠٢٠ م

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

ماللوطن... عبد الرزاق سعدة

سيد قلبي... ياس ياسمين

الحسود..خواطر بن قاقا