الوتر الرابع... فتحي الخريشا

 ★   الوَترُ الرَّابِعُ   ★

 لولا أنْ في المُوسِيقىٰ الحمَاسَة صنو الضَّرب على أوتارِ الطنابيرِ والقرع على جلدِ الدُّفُوفِ أكانت تلهبُ المشَاعرَ غامرةً كلَّ الجوارحِ لاِشتِعالاتٍ صاخبة الٱهتِيَاجِ تصيرُ عليها العواطفُ مُتهافِتة لتلبية الدّعوات المُبجلة في شتىٰ ٱتّجاهَاتِ مرامِي الطبقات، تعبئة الناس ليلتصِقوا بقوىٰ جذبهَا مُريدينَ كمَا الفراشُ حول النّورِ لا يخرجُون عن طوعِهَا وعلى بُسطِ شدوِهَا هُم من ثمالةٍ المأسُورُون، جاثمون بخُشُوعٍ مُمجدِين مَا تنفِلُ من كاساتِ خمرتِهَا لِوِجدانِهِمْ من أخيلةِ أفكارٍ تفيضُ من حرورةِ الأفئِدةِ على لهْبَةِ الإيقاعاتٍ، إذ يتهللونهَا بفخامَةِ التّعظِيمِ سكارَىٰ في أنغامِهَا فهُمْ مُسَلِمُون عنان إرادتهِمْ وقياد ذواتهِم لقبضَاتِ نشواتِهَا المَحمُومةِ في الاِنْتِشَاءِ تفعل بهم على أكفِّ ٱهتزازاتِ مدايَاتِهَا مَا تشاء، لكأنَّهُمُ الظَّمآنُ عطشًا على يَنبُوعِ الماءِ كما الرَّضِيعُ الغرثانِ علىٰ النَّهدِ. 

 لولا أنَّ فيهَا الهيبَة والجلالُ والوَقارُ وسِحرُ النّقاءِ إلى أسرارِ ٱستِنهَاضِ المشاعر والأحاسِيس أكانت تكُون من الطقوسِ المُبجلةِ في كلِّ المُعتقداتِ والأديُن التي ٱعتقدتهَا ٱعتِناقا البشرِيَّة لبين أيدي الأبشار.

 إنَّ في المُوسِيقىٰ من رفعةٍ وسُمُوٍّ مَا يَجعلهَا قدسِيَّة مقدسَة في حضرَةِ القلوب العَاجَّة إلى أفقِ كلِّ مترنحِ وَجْدٍ، تتوسط حلقات التّحررِ الرُّوحيِّ كالدُّرةِ المُضِيئةِ من تلقاءِ نفسها كلّمَا أعتمَىٰ مَا حولهَا ٱزدادت بَهاء إشراقٍ، وكالخمرَةِ المعصورةِ من فاكهةٍ مختلفةٍ نضِيجةٍ كلمَا ٱرتشفُوا مِنهَا ٱزدادت تعتقا في أكوابِهِم المُسكوبَة فيهَا في أبَّهَةِ ظهُورِ النَّشواتِ كمَا الشّعاعُ النافذ من شقوقِ الجدرانِ إلى الظّلِّ يقدحُ فيهِ الضِّيَاءِ، وإنّهَا تنزعُ المرضَ من القلوبِ وكذا تنزعُ الأثوابَ المرقعة بالتظاهرِ والمَرثِية بالأدرانِ عن الأجسَادِ لتستحم بغوالِي عطر الطيُوبِ في عراءِ الأنوارِ.

 المُوسيقىٰ رفيقة الفهْمِ والفِطنةِ إذ تجعل الهوَّة بين النّقيضِين مُجسرة لنقطةِ الاِلتِقاءِ في التّوحدِ النّوْرَانِيِّ الأعلىٰ، حين الأذهان حاضرة بٱرْتِفاعِ درجة الوَعي ومُتجليَّة في إشراقاتِ النُّورِ الأسنىٰ.

 إنّ المُوسيقىٰ قديمة قدم التاريخ بل قدم الإنْسَان والحقّ أسبق من كلِّ مُتكامِلِ قائِمٍ على وَتر وُجُودٍ، فمَا ٱبتدع العالم إلّا من لبِّ حَيّ بذرتِهَا من تناغمٍ وتآلفٍ كمَا الزَّهرةُ قبل أنْ تستوي على كمَالِ هيئتِهَا إذ كانت بذرتها تضجُّ بأنعامِ النَّمَاءِ، وقد تشكلت متقولبة في نهجِ ألحانٍ بين همسةٍ وصدحٍ مُتخذة لهَا أصناف وأنواع كمَا تنوع الأشجار ومذاقاتِ الثمار.

 يَا لِوَتر المُوسِيقىٰ الحزين الذي يُصعّدُ الأنفاسَ في الصُّدُورِ ويغلي في القلبِ الدِّمَاء صالبًا النّفسَ على إيقاعَاتِ الأنين بحِرَاب الألمِ التي تقعُ بالطعانِ على الصّدرِ تمزقهُ أشلاءً وتقطع أنفاسَهُ لآهات الحسراتِ وتأوهات الشقاوات وشهقات الهُمُوم، ويا لِوترهَا الرَّائِقِ الذي على مَسَارِحِ الرُّوحِ يُرقصُ النَّفْسَ بغبطةِ سُكرٍ وفي أعماقِهَا تجنَّحُ بالمسرَّةِ وفي أثيرهَا النّورانِيِّ  تطيّرُ البلابلَ برائِعِ الشّدوِ وعلى زهورِ حُقُولِهَا تهبُّ بالنسماتِ تموجهَا لذكاءِ أعباقِ الأريج.

 ألآ إنَّ المُوسيقىٰ على أوتارِ أصنافها تمورُ لكمالاتِ وِحدةِ كُلّهَا عن فرطِ التَّبضِيعِ إذ تمازجُ بين أملِ طلوعِ الشمسِ المُبهجِ وشجو غُرُوبِهَا المُحزن لِمَا فيها من ٱنشراحِ لقاءٍ وأسىٰ وَداعٍ صنو الفرحةِ بوعوعةِ المَولودِ والتَّرْحَة على نشيجٍ ومفقُودِ، ومنها ما تطرفُ بوترِ إيقاعٍ وَاحدٍ لغايةٍ وَاحدةٍ كالرَّقصِ فوق جمراتِ النّارِ والسَّيْرِ على حطامِ الزّجاجِ للسُّقوطِ على أكمامِ الوردِ حيث المشامُ في نشوةِ أعباق أرائِج الٱنْشِرَاح، وكذا التلاشِي في الاِنْفِرَادِ لعُزلةٍ فائِقة الٱنْقِطاعِ بأجْنِحَةٍ تُجَنَّحُ في الفلكِ الدَّائِرِيِّ للٱلتقاءِ فوق المَاءِ وجزائِرِهِ بكُلِّ ألفةِ النَّاسِ وجَمَالِ الوُجُودِ. 

 ألآ مَا زال أبناءُ الحيَاةِ يَبتدعُون مِنَ المُوسيقىٰ إيقاعات أنغامٍ وجديد ألحان، إنّهَا متنامية مع الزَّمنِ لا يتوقفُ نمَاؤُهَا من حركةِ نبضاتٍ وتجاذب توليفات.

 إنّ للموسيقىٰ روعة ظهورٍ كجَمَالِ الشَّمْسِ في بَهَاءَةِ طلعتهَا وكأوَّلِ ٱبتسامَةٍ ترتسمُ على أساريرِ الوليدِ في مهدِ الحَيَاة.

 ٱحبُّوا يا إخوَة الجَمَالِ مَا توارثتُمْ من بَدائِعِ المُوسِيقىٰ وكذا جديد جميلِ إبداعاتِكُم ذات الرِّفعةِ والتميُّزِ، وليكن ٱحترامكم للمُوسِيقىٰ من أيّ أفاضةٍ تفيضُ بنعمَاءِ أنغامِهَا عطايَا رفدِ بهجةِ المحبَّةِ للذائِذِ النَّفسِ وٱبتِهاجِ الرُّوح، لأنكُم قدْ تجدُون في مقطعٍ صَغِيرٍ من أمَّةٍ نائِيةٍ مَا لا تجدونهُ في سمفونِيَّةٍ عملاقة يَحدوها الجمُّ الغفِير.

 ألآ عانِقُوا عُذوبة المُوسِيقىٰ وبكامِلِ الاِنْتِشَاءِ حيث أنتُم عليهَا تقعُون.


                   من كتاب الموسيقىٰ لمؤلفه :

                المهندس فتحي الخريشا أبو أكبر

                                 ( آدم )

تعليقات

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

ماللوطن... عبد الرزاق سعدة

سيد قلبي... ياس ياسمين

موطني..محمد الشريف بن زراري