حافظة الشعر العربي... عبد الكريم احمد الزيدي

 حافظة الشعر العربي

(الحلقة الثانية)

...............................


سأفرد هذه الحلقة في توظيف الشعر وأغراضه لعصر ما يسمى بصدر الإسلام ، وذلك لأهميته وغيابه عن كثير من الأدباء والشعراء لما يميزه من دور فاعل في اغناء الشعر العربي والأدب بشكل عام وتوجيهه بما يتفق ويلائم عصر الدعوة الإسلامية ومفاهيم الخلق الإسلامي الذي طال الشعر الذي سبقه من عصر ليجدد في روحه معاني القيم ومكارم الأخلاق .


وقبل البدء بمفهوم العصر هذا ، أود أن اذكر بأن ماسمي بالعصر الجاهلي كان اصطلاحا مجازيا لا يعني الجهل بمفهومه ولكنه قصد معايير الأخلاق من مجون وطيش وعصبية قبلية بما لايوافق الخلق العربي وقيمه الإنسانية  .


فقد وردنا كما أسلفت من أدب وشعر تلك الحقبة التاريخية أنفس الشعر العربي وأجوده لقوة فصاحته وبلاغته وهو تراث يحق للعرب التفاخر به لما فيه من قيم بليغة نبيلة ، وقد قيل عن الشعر في صدر الإسلام انه ربما ضعف او مرض أو خفت بريق وهجه وفقد معايير الفصاحة والبلاغة ، ولكن الحقيقة غير ذلك تمامًا فقد جاء الإسلام ليشذب النفوس ويهذبها ويرفع عنها ولينقل في موضوعنا للشعر ألى منحى وحال ثاني يترفع فيه عن المجون والتطاول والمبالغة غير الحقة في التوصيف والدلالة والغلو والإغراق والتشويه وألى ما ذلك من بذيء القول وفاحشه ، وهذا ما اكد عليه ابن سلام في طبقات فحول الشعراء ورددها من بعده ابن خلدون في مقدمته وكتاب العبر ، فالشعر في صدر الإسلام جند في الدعوة والفتوحات والجهاد وقد تصدى له الكبار من الشعراء المخضرمين الذين عاصروا الجاهلية والإسلام أمثال حسان بن ثابت وكعب بن مالك وعبد الله بن رواحة .


فقد تميز الشعر في هذه الفترة وعهد الخلافة الراشدة بوضع معايير وقياس لأغراضه في المديح والفخر والهجاء والرثاء والغزل والى غيره ، بعيدًا عن المقولة التي اشتهر بها الشعر الجاهلي ( اعذب الشعر اكذبه ) التي عرفت الغلو والمبالغة والكذب هنا لا يعني المعنى الأخلاقي بذاته وإنما التخييل والمبالغة في التصوير مجازًا لحدود الرفض وعدم القبول به ، فالمبالغة بدرجاتها كما ورد عن القزويني ( الغلو ، الإغراق والتبليغ ) كلامًا لا يقبله العقل والواقع كما ورد في قول الشاعر مادحا :


وأخفت أهل الشرك حتى أنه

لتخافك النطف التي لم تخلق


لا كقول الشاعر في المبالغة المقبولة بالعقل ولكنها غير متوافقة مع الواقع فيقول :


ونكرم جارنا ما دام فينا

ونتبعه الكرامة حيث مالا


وقد هذب الإسلام في الشعر وأغراضه وجعل الصدق والخلق فيه أساسًا وقاعدة لبنائه ، كما ورد عن حديث النبي صل الله عليه وسلم ( أن من الشعر لحكمة ) بمعنى ما  فيه من القيم والأخلاق التي تتفق مع مبادئ الدين وأحكامه وليس ما سبق من مجون وكذب ودجل وغلو ، كما قال عليه الصلاة والسلام ( لأن يمتلأ جوف احدكم قيحًا حتى يرينه خيرا من ان يقول شعرا ) وهذا ما جاء في قول الله سبحانه وتعالى ( والشعراء يتبعهم الغاوون . الم تر أنهم في كل واد يهيمون . وأنهم يقولون ما لا يفعلون.    ألا الذين امنوا وعملو الصالحات وذكروا الله كثيرا وانتصروا من بعد ما ظلموا . وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون ) . ( ١ )


وعودة الى اختلال العرب وشعرائهم إبان الدعوة ونزول القران الكريم وانبهارهم بهذا القول الذي تناقلوه على أنه شعرا أو سحراً لما فيه من بلاغة وفصاحة ومفردات لم يعهدوا لها سمعا من قبل ولا قدرة على مجاراته او الإتيان بمثله ، هذا الذي استوقف الكثير منهم قبل أن يعودوا اليه ثانية كما جاء على لسان الشاعر لبيد بن ربيعة الذي قيل انه توقف عن الشعر بعد أسلامه ولم يقل ألا بيتًا واحدا :


ما عاتب المرء الكريم كنفسه

والمرء يصلحه القرين الصالح


بعد ان كان قد علق على جدار الكعبة قصيدة له يطالب بها بدم أخ له قتل وكان مطلعها :


ألا كل شيء ما خلا الله باطل

وكل نعيم لا محالة زائل


ولكن الإسلام في حقيقته قد وظف الشعر بمعيار الصدق والدعوة وعدم المغالاة والمبالغة في القول ، كما دعى الرسول عليه الصلاة والسلام إبان وصوله يثرب مهاجرا اليها وقد اجتمع اليه الانصار ( ما يمنع القوم الذين نصروا الإسلام بأموالهم وأسلحتهم ألا ينصرونه بألسنتهم ) دعوة واضحة لشعرائهم بنصرة الدين والدعوة حتى اختار من بينهم من يقوله ليرد على قريش وشعرائها الذين أبتدوا الهجاء على لسان ( أبو سفيان بن الحارث ، ضرار بن الخطاب و عبد الله بن الزمعجرة ) حتى انبرى لهم حسان بن ثابت بقصيدة جاء فيها :


عدمنا خيلنا ان لم تروها

تثير النقع موعدها كداء


يبارين الأسنة مصعدات

على أكتافها الأسل الظماء


تظل جيادنا متمطرات

تلطمهن بالخُمر النساء


فأما تعرضوا عنا اعتمرنا

وكان الفتح وانكشف الغطاء


وإلا فاصبروا لجلاء يوم

يعز الله فيه من يشاء 


وتفيض فيه الحمية لنصرة من دعاه ويقبل عليهم ليزيد القول ، فيقول :


أتهجوه ولست له بكفء

فشركما لخيركما الفداء


هجوت مباركًا برا حنيفا

أمين الله شيمته الوفاء


فمن يهجو رسول الله منكم

ويمدحه وينصره سواء


فأن أبي ووالده وعرضي

لعرض محمد منكم وقاء


وفي موقعة أخرى دعاه النبي صل الله عليه وسلم ليهجو قريشا "أهجهم يا حسان فان شعرك أشد عليهم من وقع السيوف " فقال فيهم :


لساني صارم لا عيب فيه

وبحري لا تكدره الدلاء


فنحكم بالقوافي من هجانا

ونضرب حين تختلط الدماء


على اننا لا ناتي بما ذهب اليه الكثير من النقاد والكتاب وكبار اللغة ولغويها ، كما ذكر الأصمعي عن وجهة نظره في شعر حسان بن ثابت أنه خفتت حدته وبريق وهجه بعد إسلامه لأن هذا الشاعر نفر اللفظ الوحشي والغريب وعبارات المبالغة والغلو ، ولأن شعره بعذوبة الوصف وأدب مفردته وهجر ألفاظ الغريب والمستهجن من اللغة ، وله في مدح النبي ( صل الله عليه وسلم )  قوله :


نبيٌّ أتانَا بعدَ يأسِ وفترةٍ

 منَ الرُّسلِ والأوثانُ في الأرضِ تُعبدُ


 فأَمسى سراجًا مستنيرًا وهاديًا 

يلوحُ كما لاحَ الصَّقيلُ المهنَّدُ 


وأنذرنَا نارًا وبشَّرَ جنَّةً 

وعلَّمنَا الإسلامَ فاللهُ نحمدُ


وأما ماورد عن كعب بن مالك الذي رد على هجاء ابن الزمعجري :


أبقى لنا حدث الحروب بطيه

من خير نحلة ربنا الوهاب


بيضاء مشرقة الذرى ومعاطنا

حم الجذوع غزيرة الأحلاب


عرضت علينا فأشتهينا ذكرها

من بعد ما عرضت على الأحزاب 


حكما يراها المجرمون بزعمهم

حرجًا ويفهمها ذوو الألباب


حتى أتم في متنها أبياتًا أعجبت النبي عليه الصلاة والسلام فقال له ( لقد شكرك الله ياكعب على قولك هذا :


جاءت سخينة كي تغالب ربها

فليغلبن مغالب الغلاب


أما شاعر الرسول عبد الله بن رواحة الذي أسلم على يد مصعب بن عمير وشهد بدر وأحد والخندق وبايع بيعة الرضوان وكان أحد القادة الثلاث في غزوة مؤتة التي استشهد فيها ، وكان شعره سيفًا مسلطًا على رقاب المشركين فيقول :


خلو بني الكفار عن سبيله

خلو فكل الخير في رسوله


نحن ضربناكم على تأويله

كما ضربناكم على تنزيله


ضربا يزيل الهام عن مقيله

ويذهل الخليل عن خليله


وكان النبي عليه الصلاة والسلام يرتجز بكلمة عبد الله بن رواحة :


والله لولا الله ما اهتدينا

ولا تصدقنا ولا صلينا


فإنزلن سكينة علينا

وثبت الأقدام إن لاقينا


إن الألى قد بغوا علينا

وإن أرادوا فتنة أبينا 


وهنا لابد لنا من عودة سريعة لأبرز شعراء هذه الحقبة واقتضاب ما أمكن من شعرهم قبل أن نختم الحلقة هذه لنستطرد الحقب التي تلت وتوالت ونبين مسار بنية وتنظيم الشعر بمرور كل حقبة وتأثيرها على شعرنا العربي .


وبهدف اختصار السيرة الشعرية لأهم الشعراء فإنني سأذكر شيئا عن أهمهم منهم :

 كعب بن زهير الذي شهد بدر وقاتل الرسول حتى فتح مكة وكان له أخا اسلم قبله فهجاه هجاء مرا آذى فيه رسول الله عليه الصلاة والسلام ، فقال يهجو أخيه (بجير ) :


ألا أبلغا عني بجيرا رسالة 

فهل لك فيما قلت بالخيف هل لكا


شربت مع المأمون كأسا روية

فأنهلك المأمون منها وعلّكا


وخالفت أسباب الهدى وتبعته

على أي شيء ويب غيرك دلكا


على خلق لم تلف أما ولا أبا

عليه ولم تدرك عليه أخا لكا


ولم يزل كعب بن زهير على شركه حتى فتح مكة فأسلم بعد أن هدر النبي دمه ، ورجع يستشفع لنفسه بلاميته المشهورة التي سميت بالبردة بعد ان خلعها النبي عن كتفه وكساه بها ، وهي تستهل بالغزل وتنتقل الى طلب الرجاء والعفو والأمل بالصفح والعفو عنه ، حيث يقول :


بانت سعاد فقلبي اليوم متبول

متيم أثرها لم يفد مكبول


وما سعاد غداة البين إذ رحلوا

ألا أغن غضيض الطرف مكحول


ويضيف قائلا :


يسعى الوشاة بجنبيها وقولهم

أنك يا ابن ابي سلمى لمقتول


وقال كل خليل كنت آمله

لا ألفينك إني عنك مشغول


فقلت خلو سبيلي لا أبًا لكم

فكل ما قدر الرحمن مفعول


وينتقل من الغزل والوشاية الى الندم والاعتذار وشعر الحكمة والرضا بالقدر حتى يمتدح الرسول عليه الصلاة والسلام بفصاحة وجزالة شعرية راجيًا العفو عما بدر منه :


نبئت أن رسول الله أوعدني

والعفو عند رسول الله مأمول


مهلا هداك ألذي اعطاك نافلة

القرآن فيها مواعيد وتفصيل


لا تأخذَّني بأقوال الوشاةِ وإن

كثرتْ عنِّي الأقاويل


وهذه القصيدة اشتهرت كثيرا لتعود صياغتها على يد الشاعر البويصيري بأجمل وأعذب ما قيل في رسول الله ومطلعها :


مولاي صل وسلم دائما أبدا

على حبيبك خير الخلق كلهم


أ من  تذكر جيران بذي سلم

مزجت دمعا جرى من مقلة بدم


أما الحطيئة وهذا كنية شاعرنا الذي لقب بها لقصره ودمامته ولا يعرف عن إسلامه بعد فتح مكة على شاكلة كعب بن زهير أم أنه تأخر في إسلامه وله باعا في المديح والهجاء ، فيقول :


دع المكارم لا ترحل لبغيتها

واقعد فأنك أنت الطاعم الكاسي


وله أيضًا قصيدة لاستعطاف الخليفة عمر الفاروق رضي الله عنه بعد أن حبسه ، فعفا عنه بعد أن أخذ عليه عهدًا ان لا يعود الى الهجاء ثانية ، فقال فيها :


ماذا تقول لأفراخ بذي مرخ

حمر الحواصل لا ماء ولا شجر


غيبت كاسبهم في قعر مظلمة

فاغفر عليك سلام الله يا عمر


أنت الأمين الذي مَن بعد صاحبه

ألقت أليك مقاليد النهى البشر


وهنا سأكتفي بهذا القدر من الإسهاب الذي ورد لزاما لاهميته ولكي امضي معكم الى متن وختام المقال إن شاء الله في منشور اخر .


تقبلوا مني كل آيات الود والأمتنان ولنا لقاء متجدد بأذن الله تعالى .


.................................................

عبد الكريم احمد الزيدي

العراق / بغداد

 ( ١ ) لنا في الاية الكريمة هذه مقالا موثقا للسورة التي سميت بأسم الشعراء في القرآن الكريم  ، اتمنى الرجوع اليها للفائدة. .

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

ماللوطن... عبد الرزاق سعدة

من بين الامي..علي اسماعيل الزراعي

خذني اليك... علي اسماعيل الزراعي