في دار المسنين نخيل…. بقلم القاصة أمل الياسري

في دارالمسنين نخيلٌ/ج1
أنا إيلما عندما تحيطَني الوحدةُ بحديقةِ أشواكِها أجرُّ ناظريّ عنها، وأريحُ قلبيّ في النظرِ لتلكَ الجبالِ الباسقةِ، الجالسةِ في الدارِ أمامَ بيتِنا، إنَّها مثلي صلبةُ جداً من الخارجِ، بينما تتهاوى حياتُها من الداخل كلما سقطَتْ سعفةٌ أو قُطِعَتْ، والخسارةُ لديها أصبحَتْ شيئاً عادياً، فتبتسمُ في وجهِ الأقدارِ، حينما تغردُ بأوراقِها المدببةِ اللطيفةِ، رغمَ زمهريرِ الشتاءِ، ولذعاتِ الصيفِ اللافحةِ، وذاتَ يومٍ سمعْتُها تبكي بصوتٍ يأخذُ اللبَّ والقلبَ، فقررْتُ مخاطبتَها، فهذهِ النخيلُ مودعةٌ في دارِ المسنينَ، وهم يحترقْنَ بصمتٍ وبلا أدخنةٍ، ويبتلعْنَ حرقةَ الحزنِ بشدةٍ، خشيةَ أنْ يرى إنكسارَهنَّ أحدٌ ما.
سأْلْتُ الأولى: لمَ أراكِ حزينةً دائماً، وكأنَّ الهمومَ والسمومَ موجهةٌ إليكِ أنتِ، ألا تجدينَ أنَّ الحياةَ جديرةٌ بالاهتمامِ؟ أجابَتْها الكامرويس: هل شعرتِ يوماً بحجمِ الألمِ الذي يجتاحُ قلبيّ، عندما أرى الرجالَ يستلذونَ برحيق أوجاعِنا، وينعتونَنا بنعوتٍ ما أنزلَ اللهُ بها من سلطانٍ، وهم يجرونَنا الى مستقبلٍ كئيبٍ، ويضعونَنا في زاويةٍ معتمةٍ من الحياةِ، ويتنعمونَ هم بمجتمعِهم الضائعِ فنصمتُ؛ لأنَّ الصمتَ هوَ المحاولةُ الأخيرةُ، لإخبارِهم بكلِّ شيءٍ لم يفهموه حينَ كُنا نتكلمُ.
إيلما: أيتُّها النخلةُ: كلُّ شيءٍ سيكونُ على ما يرامُ، كوني قويةً، بكَتِ الكنتيا وقالَتْ: يبدأُ يوميّ جيداً، ثم بعدَ سويعاتٍ قليلةٍ تبدأُ المشاكلُ، وتشدُّ حيازيمَها ليتحولَ الى يومٍ لا يُطاقُ، وأتذكرُ جيداً ما قالَتْهُ عمتي عن الزواجِ، أنَّهُ أمّا يكونُ أكبرَ الأوجاعِ أو أكبرَ الثرواتِ، ومع هذا الكمِ الهائلِ من اللامبالاةِ، أضعُ ورقةً وقلماً بجانبيّ، لأدونَ أسماءَ أشخاصٍ فعلْتُ لهم الكثيرَ، دون أنْ يشيروا لي بكلمةِ واحدةٍ، مع أنَّي لم أسألْهم أجراً، إن أجريَّ إلا على اللِه.
إيلما: لاتانيا: أنتِ نخلةٌ عظيمةٌ وكنتِ متوهجةً فماذا دهاكِ؟! ردَّتْ لاتانيا: تعلمْتُ من أُمي إنَّ إخفاءَ الحزنِ أسوءُ بكثيرٍ من الحزنِ نفسِهِ، لأنَّني وجدْتُ في الحياةِ، مَنْ لديهِ استعدادٌ دائمٌ ليراني أسقطُ، فلم أخفِ حُزني عليهِ، بل جعلْتُ منهُ باباً مغلقاً قديماً، وبحثْتُ عن الأبوابِ المؤمنةِ، الصادقةِ، النقيةِ والتي تملأُ قلبي راحةً، وسكوناً، وقوةً، وإيماناً بقضاءِ اللهِ وقدرهِ، وتفننْتُ في فكِ كلِّ القيودِ، ولم أتنازلْ عن القمةِ، وهمسْتُ لخالقي: إنكَ على كلِّ شيءٍ قديرٍ.
إيلما: مَنْ فعل بكِ هذا يا فينكس؟ ألا يرحمونَ جسدَكِ الباسقِ؟ أجابَتِ الفينكس: ربما يشاهدُ الناسُ جرحَكِ، لكنَّهم لا يشعرونَ بالألمِ الذي تعانينَهُ، وكم أشفقُ على هؤلاءِ العشاقِ، الذينَ يحفرونَ أسماءَهم على جذعيّ لتبقى خالدةً، مع أنَّني أنا الخالدةُ، وقد ينالونَ فرصةَ النجاحِ، وأتحملُ مرارةَ الكفاحِ لأجلِ البقاءِ، ووسطَ ضوضاءِ الحياةِ لا أحدَ ينتبهُ لغزارةِ الدمِ على جسديّ، وهذا الانحناءُ سببُهُ أنَّ العالمَ مقرفٌ، وأنَّ قارئةَ الفنجانِ تقولُ لي: الطريقُ مسدود، لكنَّي أرددُ دائماً قولَ الإمامِ عليٍّ:( الصبرُ صبرانِ: صبرٌ على ما تكرهُ، وصبرٌ على ما تحبُّ) وأنا أحبُّكم.
إيلما: أنتِ يا سَبال كنْتِ تضحكينَ باستمرارٍ، لماذا غادرتْكِ البسمةُ؟ السَبال: ابتسامتيّ لم تعدْ تحبُّ الظهورَ، لانَّ الحياةَ أرهقتني كثيراً، وروحيّ تُوجُعها الجروحُ، فلا مجالَ لئنْ أبتسمَ، وبداخليّ مجزرةٌ تمزقُ أوصالي، ولا أمانَ لي سوى (الحمدُ لله)، هل تعرفينَ كم من الناسِ يقفُ تحتَ ظليّ، ويقومونَ بما لا يليقُ بِهم بل أشعرُ أنَّ معظمَهم أبالسةٌ ودمى، إنَّهم آكلو لحومِ البشرِ، يُقحمونَ عاهراتِهم في الكلامِ عن زوجاتِهم، ويرمونَ أولادَهم بشتى أنواعِ الشتائمِ والسُبابِ، إنَّهم أسوءُ الناسِ خلقاً، ينكرونَ فضلَكِ، وينسونَ عشرتكِ ويقولونَ عنكِ ما ليسَ فيكِ، فالضوضاءُ كثيفةٌ حولَهم، لذا أجيدُ الصمتَ بشكلٍ لائقٍ لأنَّهُ أقوى من الكلامِ، وبعدَ كلِّ هذا تسألينني عن البسمةِ؟!
إيلما: أنتِ منتصرةٌ دائماً، لكنْ لماذا تحملينَ نفسكِ في حقيبةٍ وكأنكِ ستهاجرينَ؟! أجابَتْ واشنغتونيا: (الانتصارُ في الحربِ أشدُّ رعباً من الحربِ نفسِها)، لأنَّي لم أعدْ أعرفُ كيفَ أحافظُ على هذا الانتصارِ، فمغرياتُ الحياةِ كبيرةٌ، وجموحُ الرجالِ أكبرُ، اضاعوُا صلواتِهم وأتبعوُا شهواتِهم، ثم أننَّي تعبْتُ من ربطِ الخيوطِ لحياتِهم، وأبدو ساذجةً جداً لأنَّي أقومُ بتبييضِ واقعِهم عبرَ الرسمِ، فاعتقدْتُ أنَّ الريشةَ ستغيرُ من العالمِ شيئاً، وما زالَتِ الحربُ مستعرةً بينَ امرأةٍ بندقيةٍ، وطفلٍ في الخمسينَ من عمرهِ يريد السفرَ!
إيلما: وأنتِ يا نوسيفيرا كيفَ وصلْتِ الى هُنا؟ ألم تكنْ لديكِ عائلةٌ كبيرةٌ؟ ردَّتْ نوسيفيرا: قطعْتُ ملايينَ الكيلومتراتِ لألتقيَ صديقاتي (سيداتِ المستحيلِ)، لكنَّي فُوجِئتُ بالأمرِ وما أشبهَ اليومَ بالبارحةِ، غيرْتُ نفسيّ لتلائمَ الآخرينَ مع بقايا من خجلي، ومكثْتُ حاملةً تفاصيلَ صبريّ، عندما زرعَوني في دارِ المسنينَ، كلُّ هذا ولم استسلمْ، رغمَ أنَّ لحقيقةِ الألمِ تفصيلٌ لا يعلمُهُ الا اللهَ، وقد حذفْتُ بعضَ الاشخاصِ من حياتي، ليسَ لأنَّني أكرُههم، بلْ لأنَّ خسارتَهم لا تعني لي شيئاً، أولادي ليسوا من جنسيتي، فأنا غريبةٌ عنهم ومن دولةٍ أخرى، ولأنَّني أعرفُ قيمةَ الإنسانيةِ أردْتُ تقاسمَها معَ الآخرينَ ولكنْ تباً....
بعدَ وهلةٍ وقفْتُ مندهشةً أمامَ نخلةٍ عراقيةٍ، ولم أجدْ مقدمةً مناسبةً لها، والحديثُ يتزاحمُ حولَها، فخصرُها مكتوبٌ عليه (قاتلة)، وكلماتُها لا تخشى الموتً، بل تخشى أن تحيا حياةً ميتةً، لكنَّ (داكتاي ليفيريا) رفعَتْ سجادةَ صلاتِها وقالَتْ لي: إعلمي عزيزتي أن العبادةَ منبعُ الحياةِ، ومَنْ لا يشربُ من هذا النبعِ يبقى ميتاً أبدَ الدهرِ، وأغمضتْ عيناها كيلا تبكي، فأمطرَتْ حسرةً وألماً، وتبعثرَتْ حروفُ حياتِها في منازلَ مهجورةٍ، وابتعدَتْ عني وهيَ تكررُ: لا حولَ ولا قوةَ إلا باللهِ العلي العظيمِ، لقد اتُهمتُ بجريمةِ قتلِ الأيامِ، ولا أدري أقتلتُ الأيامَ أم الأيامَ قتلتني بعدما رماني أولادي؟!.
أيلما: سايكاس: يقولونَ أنَّكِ حكيمةٌ، ومعظمُ النخيلِ يقفُ أمامَكِ عاجزاً، فهلْ هذا صحيحٌ؟ أجابَتْ سايكاس: لقد اشتقْتُ للضحكِ على نفسيّ الطيبةِ، لكنَّي في مرحلةٍ وصلْتُ فيها لقناعةِ (أنَّ أحلاميّ مجردُ تمثيليةٍ عُرضِتْ في رأسيّ، وبطلُها الوحيدُ هوَ الوهمُ،) إنَّي أمزحُ، الحقيقة أنَّ توطينَ نفسي على رصائعِ المعروفِ للآخرينَ دونَ مقابلٍ في الصباحِ، يجعلُني أصنعُ كوباً من السعادةِ في الليلِ، بوصفة سهلةٍ جداً مقاديرُها: أملٌ +تفاؤلٌ + رضا + ابتسامةٌ، وإعلمي يا حبيبتي (أنَّ النجاحَ سُلّمٌ لا تستطيعينَ تسلقَهُ ويداكِ في جيوبِكِ).
وفي ختامِ حديثيَ، أشارَتْ حكيمتهُنَّ عليَّ بزيارةِ قسمٍ اسمهُ (صباريات)، يقعُ خلفَ قسمِ النخيلِ في دارِ المسنينَ، فأدركْتُ كم هو واهمٌ مَنْ يعتقدُ أنَّ هذهِ الشموعَ قد تنطفئُ، ودعتْهنَّ وقلْتُ لهنَّ: سلاماً على أرواحِكنَّ، ، وألبسْتُ كلَّ واحدةٍ منهنَّ قلادةَ الصبرِ، فملأْتِ الابتساماتُ أفواهَهنَّ.
الأسماءُ الورادةُ في القصةِ القصيرةِ، تعودُ لأنواعٍ مشهورةٍ من النخيلِ.
أمل الياسري/ العراق

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

ماللوطن... عبد الرزاق سعدة

سيد قلبي... ياس ياسمين

الحسود..خواطر بن قاقا