تفاصيل الفرح… قصة لسلوى البحري

تفاصيل الفرح
      يوم واحد مازال يفصل أحمد عن يوم العيد. يوم واحد يمر عليه بطعم العلقم فرب العمل لم يطلق سراحه دون سائر العمال. هكذا نحن دوما نعاقب المجد. أي عدالة هذه يكره فيها شاب على ترك أمه يوم العيد.
أخيرا حضر السيد فؤاد إلى موقع العمل. عاين الأشغال. وندت عنه ابتسامة عريضة كشفت ما في فيه من درر. صفراء وبيضاء وفضية. لقد حول فمه  مصاغة. وكلما ضحك أوتضاحك فلهدف واحد أن يبهر محدثه بماله وجاهه.
_أحسنت يا أحمد لم تخيب ظني لما اخترتك.يلزمك يومان وتنهي العمل.
ابتأس الشاب. وكسا الهم وجهه. يومان؟ ألا يعلم رب العمل أن العيد غدا؟ لاحل له إذا ليرى أمه إلا أن يصل ليله بنهاره لعله يكمل مهمته.
_سيدي إذا أنهيت عملي قبل الأوان هل تتعهد بإيصالي إلى قريتي
باغت السؤال رب العمل. فحملق في وجه أحمد غير مصدق
_أجاد أنت فيم تقول؟ العيد غدا.!!! هيا يا بني وفقك الله أستودعك الآن. نلتقي بعد يومين. ومد يده إلى جيبه وسحب منه ظرفا مكتنزا.
_ألفا دينار لك أجرتك ومعها مكافأة العيد.
مد أحمد يده وتسلم المظروف وفي القلب إحساس بالقهر فاق الاحتمال. أي أموال تساوي لوعة أم لم توشح عينيها برؤية بكرها؟ وأي مكافأة تنسي ابنا حضنا تاق لدفئه ودعاء هفت أذنه لسماعه.
وقفت الأم مطلع الطريق تتفقد الخيالات القادمة وتتفحصها. هذا أقصر من أحمد. وذاك أسمن وأشد سمرة. أما الآخر فشعره مجعد شتان بينه وبين حبيبي ذي الشعر الناعم الأملس. لطالما تغامزت بنات الحي وتهامسن وتضاحكن للفت نظره وركوعا  أمام فتنته.
نشر الليل رداءه على حقول الزيتون الممتدة فزادها سوادا. لا أمل للأم في رجوع ابنها. فالطرق الترابية وعرة موحشة. والنقل الريفي لايزور البوادي ليلا. فماذا إذا كانت ليلة العيد خفضت الأم بصرها. وأدبرت متثاقلة الخطى إلى الحوش الكبير. بدا لها باردا ساكنا لاطعم للفرح فيه.تسمرت أمام الباب رغم لسعات البرد التي تجلدها. لاشيء ينبئ أنها ليلة عيد.نادى العم صالح زوجته ليتفقدا الخروف سوية. لكنها امتنعت. عن أي خروف يتحدث؟ والله لن تطعم منه قطعة قبل أحمد. اشتدت وطأة البرد وأنذرت السماء بغضب قادم. يا سماء العيد إذا الغيث همى. التحق الابن الأصغر سامي بأمه  وقد نهشت الغيرة قلبه
_ألا يحلو لك العيد إلا إذا حضر أحمد؟ ألا نستطيع سد الفراغ؟ ألا يمكن أن تستغني عنه؟
نظرت له والألم يعتصر قلبها :
_بلى أستطيع. هات السكين وتعال
قفز الابن وبسرعة البرق مد لها السكين.
_ ابسط يديك واختر من أصابعك العشرة واحدا أقطعه.
سحب سامي يده كمن أصابته صعقة نظر مشدوها غير مصدق لطلب أمه.
_ لا أستطيع يا أمي أن أستغني على واحد منها.
دققت فيه النظر وأرسلت ابتسامة لاروح فيها وهي تزيل ماعلق بخاطر ابنها من حيرة
_مالك؟ اعتقدت أنني جننت؟ لاوالله. إنما المحير هو أمرك لك عشرة أصابع ولاتستطيع التخلي على واحد منها. ولي ابنان فقط وتريدني أن أتنازل عن أحدهما. حبيبي أنت عيني اليمنى وهو عيني اليسرى. أنت الروح وهو العقل. أنت البصر وهو البصيرة. أنت يومي وهو غدي. وغمرته في حضنها تداري دمعا سال منها. استكان سامي وبكى.
_سامحيني يا أمي. لم أقصد ما فهمت. أنا أحبكما وخشيت أن يتمكن البرد منك وتعاودك نوبات الربو
لا تعرف الأم أن سامي كان ينتظر أوبة أحمد أكثر منها. لقد اشتاق لشغبه وأحاديثه ونوادره. وانتظر هداياه ولعبه. ومن غيره سيشتري لسامي لباس العيد وحلوى العيد و كسوة العيد التي تعود أن يفاخر بها أبناء العم وأطفال الجيران. لم تنتبه أمه أنه لم يخرج اليوم للعب كعادته خوف أن يسأل عن ثوبه الجديد. مرت الليلة طويلة كئيبة لاتشبه ليالي الأعياد الصاخبة الدافئة بأنس أهلها وحرارة لقاءاتهم.
كان أحمد يقلب أمره. لقد استمات في العمل وحمس عماله ليضاعفوا جهودهم وينتهوا من العمل. وأخيرا انتهت الأشغال. فتعانق الجميع وسارعوا للمغادرة. لم يبق غير أحمد. هو المسؤول لايستطيع ترك الموقع. ولانقل يمكن أن يوصله في هذه الليلة المدلهمة. رفع رأسه للسماء فبللت يديه بدموعها. لقد قاسمته وجعه ووحشته في هذا الخلاء القفار.
مع تباشير الصبح ارتفع صوت المصلين:الله أكبر الله أكبرالله أكبر ولا إله ألا الله...لم يمض وقت طويل حتى عاد المصلون إلى ديارهم وتجمعوا في بطحاء الحي يتبادلون التهاني. وانتشرت رائحة البخور وعلا ثغاء الأغنام  وصياح الصبية يتدافعون في كل الاتجاهات. الكل سعيد إلا عائلة واحدة كانت تمثل مشهد السعادة بعد أن دب اليأس إلى قلوب أفرادها.
خرج سامي وأمه مثقلي الخطوات لمعايدة الجيران و لكن من هذا الفتى الوسيم اليافع الذي غمره الجميع بحبهم وقبلهم. لا لا يمكن أن يكون هو. أليس أحمد؟ بلى إنه هو بشحمه ولحمه. لقد أشفقت السماء على حاله فقيض الله داعيا ساق السيد فؤاد لتفقد الأشغال. فتحين أحمد الفرصة وتمسك بحقه في زيارة أهله. ولما رفض مطلبه أعلن استقالته وأعاد المكافأة لمشغله وهو يردد  لا مال في الدنيا يغنيني عن حضن أمي ودعوات أبي وفرحة أخي. وهكذا رمى نفسه في أول عربة توقفت في الطريق  وأشفق سائقها على حاله لقد أمضى ليله من سيارة لأخرى حتى اقترب من المسلك الترابي بعد الثالثة فجرا عندها عندما يئست العائلة ودخلت لتنام خرج هو من آخر عربة يواجه قدره  وسار وحيدا تحت وابل المطر لا أحد غيره كان يعرف العذاب الذي لاقاه وهو يسير في سواد الليل مبللا وساقاه تحملان من الطين أثقالا وحفيف الأوراق يصيبه بالرعب. كان يتلو في سره آيات من القرآن. كمن يستجير بربه من هول المصير. أليس الله الذي أوصاه بالوالدين إحسانا . وهاهو يطبق شرع ربه وهل بعد ما فعل إحسان.  أمضى أكثر من ثلاث ساعات يصارع الطريق الوعر حتى وصل المسجد وصلى مع الأهالي صلاة العيد.
اندفع سامي يجري حافيا وخلفه أمه عارية الرأس. افتكاه من الجمع الغفير وأشبعاه عناقا وقبلا  وأطلقت الأم الزغاريد. وسارعت تغير لابنها ملابسه المبللة. لم ينس أحمد الحلوى ولا اللعب ولاالملابس الجديدة. لقد أغرق عائلته هدايا ولم يدخر لنفسه فلسا. لقد كال لأسرته من السعادة ألوانا وأشكالا.  وأخفى عنها خبر بطالته وما ينتظره من مآل غامض. ففي سبيل بارقة فرح في عيون أهله تهون كل مآسيه. أما سامي فكانت عيناه ترقبان أخاه بحنو ولايعرف لم ولأول مرة لم يشعر بالغيرة بل كان قلبه يفيض حبا ويذوب حنانا.
تمت
سلوى البحري صفاقس تونس

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

ماللوطن... عبد الرزاق سعدة

سيد قلبي... ياس ياسمين

الحسود..خواطر بن قاقا