صدفة… كتبها الاديب عبد المجيد الجاسم

صدفه
قبل شقيقته الصغيرة وطبع قبلة أخرى على جبين والدته وغادر المنزل الريفي قبل
طلوع الفجر ليلحق بالمدينة قبل ان يفوته موعد / الحافلة/ الوحيده التي يستقلها  للمدينة مع الخيوط الأولى للفجر وعلى سامر ان يحث الخطى نحو الطريق العام والذي يبعد مسافة تحتاج ساعة مشيا على الأقدام .الجو هادئ والحرارة معتدلة ورطوبة تحملها طيات النسيم العليل لتصافح وجه سامر .وتداعب خصلات شعره وكلبه الأمين مرافق له يلتف عليه من اليمين مرة ، ومرة من اليسار ويلتصق به أحيانا ويهز ذيله كلما دقق النظر به سامر, وكأنه يودعه بطريقة اعتاد عليها كل مرة يوصله الطريق العام, وينتظره حتى يصعد السيارة ثم يطلق عواء" ويعود ادراجه إلى البيت مسرعا ...
لم يبق على سامر سوى مادة واحدة " للتخرج, ويكون بعد ذلك مدرسا في إحدى المدارس ، وكان يطوف بخياله ..الطلبة والطالبات وقاعات الامتحانات وشوارع مدينة دمشق وفنادقها وحتى أزقتها , فأحيانا يتصور نفسه يجيب على أسئلة الامتحان وأحيانا يحمل شهادة التخرج ممهورة بالخاتم الذهبي ليضعها بين يدي والدته فهي الوحيدة مع شقيقته بعد آن فقد والده في سن مبكرة ...لقد حرم حنان الأب فأثر في تكوين شخصيته فهو مسالم وديع خجول منطوي على نفسه ...لكنه مرهف الإحساس ... وجريء في بعض المواقف
فما كاد أن يصل إلى الطريق العام حتى كأن " الحافله" الوحيده بانتظاره وصعد الحافله وما هي إلا ساعتين حتى كان أمام الحافلة الكبيرة التي تقله إلى مدينة دمشق وبعد انتظار اكثر من ساعتين في ساحة الكراج .صعد الحافلة بعد ان تفقد مساعد الحافلة جميع أغراضه وفتشها غرضا غرضا . لقد كان خجلا مما يقلبه مساعد الحافلة أمام الركاب لان ملابسة, وأغراض المحمولة ليست عليها القيمة فقد كان فقيرا ...فقد كانت والدتة تعمل بالأجرة في الحقول والمزارع لتصرف على البيت وعلى دراسة سامر..صعد الركاب الحافله فجلس في المقعد المخصص له وجلست إلى جانبه فتاة لم يشاهد وجهها ..فحيته فرد التحيه لها وهو خجل .تحرك البولمان واخذ ينهب الأرض نهبا, واخذ ينظر من خلال النافذة نحو الأفق البعيد والى البيوت الريفية المتناثرة على أطراف الصحراء المترامية ..وغاص بأفكار شتى .لم يقطعها سوى همس الفتاة التي بجانبه، وكانت تتأوه من حرارة الصيف وبيدها صحيفة تحركها ذات اليمين وذات اليسار لطرد حرارة الجو ..حاول سامر أن يسرق نظرة " لقد كان وجهها أشبه بلوحة فنية أجهد الفنان نفسه ليخرج بها نحو معرض عالمي رموشها مزدوجة ومقلتاها واسعتان بحدقتان زرقاوان والناظر إليهما كأنه يغوص في بحر عميق متلاطم الأمواج انفها دقيق أشم وجنتاها بيضاء مشربة بحمرة ،وثغرها أشبه بوردة بنفسج أضفى عليها الرحمن المصور سحره وإبداعه .قوامها نحيل وشعرها أشقر مسترسل كخيوط الشمس الذهبية عند الشروق ، وتقاسيم وجهها وهندامها يوحي بالنعمة والرخاء مصحوبا بالذكاء ! وخطف نظرة"خجلة أخرى وكأنه يرتشف ماء الحياة .. وصار كل فترة يسترق نظرة ولا يستديم النظر ..فهو يخشى عليها حتى من عينيه بل يخجل من أن تر مقلتيه سحر  آية من آيات الخالق في الكون ..! وحدث نفسه أيمكن أن يكون جمال بهذا الشكل الذي يراه ، فقد شاهد فتيات كثيرات في الجامعة وأغلبهن  جميلات وحسناوات لكن ليس بهذا المقدار ..!
وتمنى لو كان عنده زوجة مثل هذه التي بجانبه لكن حلمه كحلم إبليس في الجنة ..فهو النحيف الطويل الأسمر الفقير بل المعدم الذي لايأويه إلا بيت طيني من غرفة واحدة فهي غرفة النوم والضيافة والمطبخ ..وهذه من بيئة كما يدل هندامها على أنها مترفة بل وغنية ...
حاول أن يقاوم الوسامة والجمال ويشتت أفكارة بعيدا عن الفتاة .لكن الفتاة دققت النظر إلى بنطا له الرث وقميصه الملطخة ببقع العرق عند إبطيه وكتابه الذي يخفي عنوانه .فسالته ممكن أن تناولني الكتاب
أجاب :  أجل . أجل  فمد يده وناولها الكتاب وهو خجل من أن يراها فأسدلت جفونها نحو الكتاب .فقالت: بأي سنة أنت :
      _أجاب: سنة أخيرة وآخر مادة للتخرج
_ وقالت : وأنا قد تخرجت هذا العام من كلية الآداب قسم العلوم الاجتماعية
وقال: أهلا " وسهلا" بحياء ...
ثم استدار نحو النافذة وراح يفتش عن موضوع يناقشها به ولم يجد ما هو جدير بالمناقشة , فسحر الفتاة سيطغى على المناقشة مهما كان نوعها وقد يتلعثم أو حتى يتأتأ...هذا ما حدثته نفسه .وحاول أن يستدير برأسه لكن خانته الشجاعة , وتذكر حين يناقش طلبة الجامعة الفتيات والابتسامة لا تفارق وجوههم فكان يسأل نفسه دائما لماذا يبتسم الشبان عندما يتحدثون مع الفتيات ‍ ‍‍‍‍‍‍‌‌‍‍‍‍‍‍‍‍؟وحدث نفسه لماذا لا يكونوا رجالا" بمعنى الكلمة .لماذا عندما يتحدثون مع رفاقهم لا يبتسمون لماذا يتقمصون شخصية" فكاهية" مرحة" هزلية , وهل الفتيات لا يعجبهن إلا هذا النوع من الرجال .أفكار شتى لارابط زماني ولا مكاني بينها سوى الصدفة .التفت يمينا" نحوها وهمست بابتسامة ساحرة ..ماذا تنوي أن تعمل بعد أن تتخرج .فأجابها محاولا" أن يخفي ابتسمامتة لكنها خرجت رغم أنفه .سأعمل مدرسا" . فقالت: مهنة شريفه لكنها لاتنفع .فقال: لاتنفع لماذا؟
اقصد المردود المادي أليس عاملا مهما.أجابها بلى ‍؟ وشعر أنه يرتشف من ثغرها البنفسجي رحيقا" بل تصور أنه يقبلها قبلة ضاغطا" بشفتيه على شفتيها مرتشفا" بلسم فمها ثم فليمت بعد ذلك .؟ وتصور نفسه يضمها إلى صدره ويعانقها عناقا" تمتزج روحه بروحها .؟ بل واستطرد بخياله إلى أبعد من ذلك ‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍؟الطريق إلى العاصمة طويلة والسفر يرهق الأعصاب والجلوس بوضعية مؤدبه وخجلة يتلف ما بقي من الأعصاب المتوترة والصحراء المترامية الأطراف تضفي على المشهد خيالات من قوافل التجار والمسافرين حيث التعب والأرق والعطش ..، ورؤوس المسافرين تترنح ذات اليمين وذات الشمال وأغنية لام كلثوم تدندن بصوت خافت بعيد عنك حياتي عذاب ؟ شعر سامر أن عليه أن يتحدث معها فليسألها أي شيء المهم يفتح حوارا" يبدد فيه الملل ويقضي على الجلسة المؤدبة فقد أرهقت جسده عليه أن يتحرك بل عليه أن يعرف من هي .فتململ قليلا" وجمع قواه وقرر أن يفتح أي حوار - فقال لها : الأخت مسافرة دمشق سياحة أو .... أجابت: بل مسافرة من أجل السياحة
- وحدث نفسه إذا فرصة سعيدة ...
- وقال لها : ما هي الأماكن التي ستزورينها
- لا أدري  .صدقا" لا أدري ..ليس بذهني أماكن معينه ..وحركت نفسها ووضعت قدم فوق الأخرى ودنت برأسها نحوه وانسدلت خصلة" من شعرها الذهبي على كتفيه وتحرك قسم من خصلتها تجاه خده ؟ هذه أول مرة" بحياته تداعب خديه خصلات من شعر امرأة" فشعر قلبه بدأ يخفق خفقانا" غير عادي .وأحس بانشراح ينتاب صدره المفعم  بالآسى وبدأت عيناه تبرقان؟ ما لبثت الفتاة أن أمسكت بيده بصورة" عفوية واقتربت بثغرها نحو آذنه لتهمس له هل تعرف فندق مريح بالعاصمة ...وهو الذي لم يعرف سوى الفنادق الرخيصة ذات الخدمة المتواضعة ..فاجابها ويده ترتجف خجلا والله لاأعرف سوى بعض الفنادق ذات الخدمة المتدنية فأجابته لايهم لايهم ......المهم ترتاح للنزلاء الموجودون ...؟وعلى مقربة من مدينة دمشق ساد الظلام واطفئت  الأنواروالحديث داخل الحافله لاينتهي ..فقد تطرق الاثنان لأحاديث اقتصادية واجتماعية وثقافية وحتى الوضع السياسي ..فكانت تقترب منه شيئا" فشيئا" حتى كاد ثغرها يلامس خديه .فزالت الرهبة فقرر وتحت نزوة عابرة سيطرة على جوارحه أن يقبلها وليكن ما يكون ثم تراجع خشية أن تصده فجمع قواه بأن يقبلها قبلة سريعة فأما أن وأما أن .. فما كادت تدنو منه حتى شاهد نفسه يطبع قبلة على خدها لقد جحظت عيناها .واستدارت جانبا ..وشعر بالخجل مما ارتكبه وبدأ ضميره يؤنبه ..وساد الصمت ..وكل انزوى بمقعده ..نزل الركاب فنزل سامر وجر حقيبته خجلا" ونظر إلى الفتاة فالتقت عيناهما فابتسمت له ابتسامة رضى ولوحت بيدها له مودعة إياه
انتهت
 بقلم : عبد المجيد الجاسم / ابوحيدر/

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

ماللوطن... عبد الرزاق سعدة

سيد قلبي... ياس ياسمين

الحسود..خواطر بن قاقا