حكايات طائشة(26)..للكاتب صباح خلف العتابي

حكايات طائشة
الحكاية رقم ( ٢٦)
توطئة :
——- ( منذ سنين طويلة دخل رجل يمتطي حصانا ابيض يحمل نبتة صغيرة زرعها وسط ساحة مفتوحة .. دخلها من طرفها الشمالي وخرج من طرفها الجنوبي.. ولكن حين خروجه استوقفته حفنة من رجال واخذوه عنوة .. وضاع الرجل بتهمة او بدونها ، كما ضاعت اخباره تاركا نبتتهه دون رعاية كما اقسم وتعهد ....)
". """""""""""""""""""""""""""""""
في خطوة تثير الدهشة اعتلى فرسه وانطلق صوب الساحة في تلك المدينة التي شهدت اعتقاله قبل سنين لزيارةنبتة زرعها هناك ، بنفس الاتجاه القديم تماما .. ونفس الاداء الروحي ، والايماءات المتراقصة وبدندنة نفس النشيد ، وكأن السنين لم تمر منذ ان زرع تلك النبتة المثيرةللاستغراب .. لكن المثير حقا بأنه وجد نفسه قد شاخ فجأة وان السنين اخذت منه مأخذة فلا داع للمكابرة الفارغة .

يبدو انه بدون قوة ولاعافية ، وان انفاسه بدأت تتقطع كغيوم الخريف ، وبعد برهة شعر بأن حصانه الابيض ايضا صار ذا لون رمادي ، وان اعشاب الارض باتت لاتهتم لوقع حوافره
— هل لازالت النبتة مكانها ؟؟ اعلى قيد الحياة هي .. ؟؟
مد بصره بعيدا .. استعار من الماضي المجيد وجهااكتسحته مسحة حمراء تركها غروب الشمس .. لاحت على وجهه ابتسامة ما .. ثم اقسم بأصغر نجمة ضاحكة بأن يفجر في اليأس روحا متلألئة وراح ينزلق بفرسه شاعلا فيه حماس المقاتلين حيث همس في اذنه :
— انا واياك.. سنلتقي نبتتنا الصغيرة ، واظنها كبيرة الان ، هل تذكرتها ؟ زرعناها معا في ارض الحب هناك .. ؟؟!!
هاهو يقترب من ارض العشق .. ومن بعيدلاحت له الساحة ، لكنه وجدها وقد تسورت بكتل كونكريتية عالية .. نزل من على فرسه المتعب ، دار حولها .. لامنفذ للدخول ، ومن خلال ثقوب مستطيلة خلفتها اهمال الايادي في الجدران ادار بصره في الارجاء .. انه بالكاد يرى الاخضرار وهو باهت جدا وكأن مياها مالحة صبت عليها صبا .. خُيل اليه بأن زهرته الحبيبة قد حبستها الشياطين خلف تلك الاسوار ، وعزلوها كما يعزل المصابون بالطاعون .
استجمع كامل قوته.. تسور الجدار بصعوبة ، اطل برأسه نحو شجرته الصغيرة التي طالما قبل وريقاتها ، وانها واِن كانت فتية فأنها كانت تلمع نيشانا لاصرارها على الحياة .. وانها بصمودها ذلك تشعره بأنه حي يتنفس في اعوام علق بها الرعب قلائد .
قفز من فوق الجدار .. هسهست الاوراق اليابسه تحت قدميه ، وجد صحفا ممزقة كنستها الرياح عند اقدام الحواجز الكونكريتية فقال لنفسه :
— زمن الذبح هو ..زمن اراقة الدماء.. زمن العطش المميت ..
كان محملا بالموسيقى والفرح في رحلته الاولى عندما زرعها .. وقتها كانت الريح لاتلحق به .. بكامل عافيته وكذلك حصانه .. قلبه يتقافز امام حوافر فرسه .. اما الان وبعد ان قبض عليه واحتجازه لسنوات ، احس بالحاجة لاستعادة عافيته المسلوبه .. وانه بحاجة الى زيارة نبتةدفع من اجلها الكثير ..
كانت مجرد شُجيرة لايعرف لها من اسم وانه الان مستعد لان يشاركها المجد او العار معا .. هاهو قريب من حضرتها بعد ان اصبح السفر خياره الوحيد .. وهاهو الان يحط قربها كطير ابتلت جناحيه ، متعبا وموسيقاه بدون درج موسيقي او صوت ، قلبه ( الكلب) بدأ يوجعه .
راح يتسلل نحو ( زهرته) في اضخم اقتراب ، وعناد وكأنه يريد فتح شفرات هذه الروح المتواثبة من خوف وقلق كبيرين في ان يعود للسجن ثانية ..
— انا الان كما كنت سابقا ..
اقنع نفسه مستأسدا واتجه مباشرة نحوها حيث تركها منذ سنين خلت
— اين هي .. ؟؟
تعداها بكل بساطة .. يبدو ان بوصلة قلبه عاطلة تماما .. ربما انها لم تعرفه ايضا .. رجع عدة خطوات ثم وقف امامها متحيرا فاقدا التمييز بينها وبين ايرها ..
— ها هي .. انها والله هي ..
واخيرا رآها زهرة ضائعة الملامح نهائيا ، وثمة عنكبوت كبير قد اغلق فمها بخيوطه فلم تستطع ان تناديه .. وما ان رفع عنها غطاء الكبت والغبار ، حتى لاحت منها ابتسامة ما جعلته ينزل في التيه والغضب والخوف ..
جلس قربها ، مد اليها يده وهو يزيح عنها اهمال السنين فتكلمت معاتبة :
— ويحكم ايها الشعراء والمثقفون كيف ادرتم ظهوركم لي وجعلتموني اسيرة اشتعل وانطفأ كنجمة تحتظر ..؟؟!!
هذه الايحاءات نزلت عليه كليا ودفعة واحدة ، وكأنما انسكبت عليه طبقات من صخور .. ونار .. وعندها احس بالخجل وشعر بأنه مجرد ركاد ماء لا اكثر .. وان عليه ان يمزق قصائده ويرحل ..

        (( صباح خلف العتابي

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

ماللوطن... عبد الرزاق سعدة

سيد قلبي... ياس ياسمين

الحسود..خواطر بن قاقا