في ذكرى مولد فخر الكائنات…. مقالة للأديب عبد الوهاب الجبوري

بسم الله الرحمن الرحيم
في ذكرى مولد فخر الكائنات
***
يارعى الله ذكراك المقدسة، ياغار ثور.. لقد كنتَ مبعث الحرية كما كان غار حراء مبعث الروح. . كان العالم قبل يوم محمد صلى الله عليه وسلم يعاني من تفكك الخلق وتحلل الرجولة وتغلب الأثرة وتحكم السفاهة.. فلما ظهر الرسول الكريم كانت شمائله وافعاله رسالة اخرى في الخلق.. كان تطبيقاً لقوانين الدين بالمُثُل ، وتعليماً لآداب النفس بالعمل ، وتنظيماً لغرائز الحياة بالقدوة.. فألّفهم على المودة وجمعهم على الوحدة ، ثم جعل لهم من كتاب الله نوراً ، ومن سنته دستورا ورمى بهم فساد الدنيا فاصلحوا الأرض ومدّنوا العالم وهذّبوا النفوس..
ان ذكرى مولد الرسول صلى الله عليه وسلم هي ذكرى قيامة الروح وولادة الحرية ونشور الخلق.. ومثلما كان مولده عليه الصلاة والسلام البعث الاول الذي طهّر النفس وعمّر الدنيا وقرّر الحق للانسان، فان البعث الأخير سيُخلص الروح ويبتدئ الآخرة ويعلن أبداً : المُلك لله وحده.. كان العالم يومئذ يضطرب في رق المادة وعبودية الشهوة وسلطان القوة، فلم يكن للمثل الأعلى وجود في ذهنه ولا للفرض النبيل أثر في سعيه ولا للشعور الانساني مجرى في حسه ولا للسمو الإلهي معنى في نفسه.. إنما كان حيواناً شهوته الغلبة، مادياً غايته اللذة، أنانياً شريعته الهوى، ثم أسرف في البهيمية حتى جعل كل أنثى مباحة لكل ذكر ، وفي المادية حتى أتخذ إلهه من خشب وحجر ، وفي الأنانية حتى قتل أولاده خشية الإملاق والضرر.. فلما بعث الرسول محمد صلى الله عليه وسلم منقذاً ، فتح في غار حراء بابا الى السماء تنزلت منه الملائكة والروح على هذا (الهيكل) المنحل و(الجسد) المعتل فنفخت فيه سر الحياة وتجسد معنى الخلود في حقيقة الله الواحد الاحد.. كان العالم قبل يوم محمد عليه الصلاة والسلام يغطّ في قصور عقلي يقتل التفكير السليم ، وقصور جسدي يقتل التصرف الحكيم، فلم يكن للأسرة نظام ولا للقبيلة قانون ولا للأمة دستور ولا للعقيدة شريعة، وإنما طغيانٌ عاصف يتحكم في الفرد ويسيطر على الجماعة.. فالأب يهب الموت والحياة لأبنائه بحكم الطبيعة، والشيخ يفرض على عشيرته الأمر والنهي بمقتضى العرف ، والملك يخضع نفوس الشعب باسم الدين والكاهن ينسخ العقول بقوة الجهل.. والناس أجمعون عدا هؤلاء الاربعة اتباع من سقط المتاع..
فلما بعث الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم بعث الحرية من مرقدها وأطلق العقول من أسرها وجعل التنافس في الخير والتعاون على البر والتفاضل في التقوى ، ثم وصل القلوب بالمؤاخاة وأقام العدل والمساواة في الحقوق والواجبات حتى شعر الضعيف أن جند الله قوته ، وأدرك الفقير أن بيت المال ثروته ، وأيقن الوحيد أن المؤمنين جميعاً إخوته ، ثم محى الفروق بين أجناس الناس وأزال الحدود بين الأركان فأصبحت الأرض وطناً واحداً ، والعالم أسرة متحدة لايهيمن على علاقاتها إلا الحب ولا يقوم على مرافقها إلا الإنصاف ، وليس بين المرء وخالقه حجاب ، ولا بين العبد وربه وساطة..
لقد أنتج الاسلام نظرة معرفية متطورة تبلورت بأشكال وصور جديدة عبر العصور ، ونمت نموها الطبيعي على وفق سنن النمو التي أودعها الله تعالى في الوجود والإنسان.. وأوجدت تلك النظرة - بفضل القرآن الكريم وسنة الرسول الاعظم - فضاءات اللغة والفقه والفلسفة والبحث وآداب منوعة وثقافة علمية قدمت للإنسانية طريق السداد في ميادين المعارف كافة ، وشكلت قاعدة فكرية عامة للإنسان والحياة ، وأوقدت في النفوس الروح السمحة التي تدعو الى الحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن والى إحترام الكائن البشري مهما كان جنسه وأصله وفصله ولونه ودينه وطائفته.. .وأفرز الاسلام كلماتٍ ومعانٍ ومفاهيمَ وقيمٍ تعمّدت بصبغة الفكر الإيماني المتكامل ، ونثرت درراً ولآلئ على العالمين ، فأزالت الفوارق بين الناس وقربت المسافات بينهم ليتعارفوا ، والأكرم عند الله أتقاهم ، وطرزت الوجود كله بأناشيد المحبة والتواصل وإحترام الذات والرأي الاخر .. هذه القيم والمفاهيم والمباديء ستبقى خالدة تسترشد بها البشرية وتنهل منها الخير والأمل والامان والرقي حتى يرث الله الأرض ومن عليها ..
ولما كانت ذكرى المولد تجدد فينا ذكرى إنطلاق الإنسانية من أسر الأوهام وطغيان القيم المادية وجور الحكام وسلطان الجاهلية ، فما أجدر بالقلوب الواعية الحرة على أختلاف منازعها ومشاربها أن تستخلص الدروس والعبر العظيمة من الذكرى العطرة وأن تخشع إجلالاً لها ولصاحبها عليه افضل الصلوات والسلام.. نبي الحرية والديمقراطية وداعية السلام والمحبة والوئام.. صلوات الله وسلامه عليك يارسول الله ، يوم وُلدت ، ويوم بُعثت ، ويوم أنتقلت الى الرفيق الاعلى ويوم تبعث حياً ونلقاك شفيعا لنا يا حبيبي يا رسول الله ، يا من وصفك الله (بالمؤمنين رؤوف رحيم ) ..
وصلى الله على نبينا وحبيبنا وشفيعنا إلى الله محمد وعلى آله وصحبه وسلم ..

عبدالوهاب الجبوري
العراق في 2019/11/10

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

ماللوطن... عبد الرزاق سعدة

سيد قلبي... ياس ياسمين

الحسود..خواطر بن قاقا