بلسم… قصة بقلم الكاتبة بهيجة بن موسى

قصة قصيرة:

              **بلسم**

جمالها كان أخّاذًا،كانت مضرب الأمثال في قريتها الصّغيرة، عائشة إنّها فتاة القريةالرّقيقةالنّاعمة،تتّقد نشاطًا وحيويّة،محبوبة الجميع لأنّها كانت تتحلّى بأخلاق عالية .
يسمّونها "بلسم" لأنّها كانت كالبلسم على جراحات الآخرين. تفيض حبّا وحنانًا،كلامها كالشّهد وضحكتها تزيل غبار السّنين عن القلوب المهمومة.
ملاكٌ صغير ذو عشرين ربيعًا أشرق بنوره على قريةٍ أرهقها الفقر والمرض واليأس. فكان وجودها بينهم شعلة أمل وثقة وحبّ دافقٍ.علّمتهم ببراءتها الفرح وحبّ الحياة وأعطتهم دروسًا تلقائيّة في التّفاؤل...
تراها يوميًّا تحمل جرّة الماء على كتفها الصّغير لتملأها من النّبع القريب. وفي طريق ذهابها تسمع ضحكاتها وهي تلقي التّحيّة على جيرانها وأهل قريتها كموسيقى عذبة تداوي الرّوح وتزيل عنها ثِقَلًا لا يعلمه إلّا اللّه.
الجميع كان ينتظرها كلّ صباح والأنظار متّجهة صوب باب بيتها والأعناق مشرئبّة تنتظر طلّة البدر المنير ....
تملأ جرّتها وتطفق راجعة. وفي طريق العودة تمرّ بمقبرة القرية،تضع الجرّة جانبّا وتقف على قبرين متجاورين وترفع كفّيها إلى السّماء بالدّعاء لوالديها الذين توفّيا  وهي في الثّالثة من عمرها،ثمّ تحمل جرّتها ونعود مسرعة خوفًا من غضب زوجة أخيها وبطشها فقد كانت إمرأة قاسية أو هي شيطانة في ثوب إنسان...
حثّت السّير وكانت الأفكار تتصارع في رأسها الصّغير، كانت تفكّر في ذاك الذي لمحته من بعيد ينتظرها عند المنعطف كعادته كل يوم...
إنّه زياد،شابّ وسيم وخلوق الابن الوحيد للحاجّ عمر صاحب الفرن في القرية وأمّه الخالة فائزة ،إمرأة طيّبة القلب يحبّها الجميع لحكمتها ورجاحة عقلها،لم تكن تبخل على نساء القرية بالنّصيحة،فتعلّمهنّ كيفيّة التّعامل مع أزواجهنّ والمحافظة على إستقرار بيوتهنّ
وهكذا نشأ زياد في بيت يسوده الإنسجام والتّفاهم ويُدَفّئُ جدرانه الحبّ والحنان ويقيم أركانه الإحترام والتّقدير فتربَّى على أخلاق عالية وقيم راقية.
أكمل دراسته وتحصّل على شهادة جامعيّة تخوّل له التّدريس في مدرسة القرية...
إستقبلها زياد كعادته بوجهه البشوش وإبتسامته السّاحرة وهمس لها برقّة وحبّ ظاهر في موسيقى حروفه "إشتقت لك لماذا تأخّرتي؟"
اعتنقت حمرة الورد وجنتيها خجلًا وردّت بصوت منعش كهبّة نسيم باردة في حرارةيوم صيفيّ"أعذرني لقد زرت والديّ في المقبرة ولم انتبه لتأخّري"
رفع رأسها بيده ونظر في عينيها وأبحرا لبرهة من الزّمن في عمق بحر من الشّوق وباحت العيون بما عجز عن قوله اللّسان ...
مرّت عليهما لحظة كأنّه عمر كامل،لم يكن على وجه الأرض غيرهما كأنّهما آدم وحوّاء وبداية الخلق...
لا يرى غيرها ولا ترى غيره ولا يسمعان سوى دقّات قلبيهما تعزف ألحانًا ساحرة على أوتار أحلامهما المشتركة....
لم تنتبه عائشة إلّا على وقع صفعة قويّة أدْمَتْ خدّها النّاعم.
جذبها أخوها من شعرها وسط إحتجاج أهل القرية وتوسّلاتهم...
أدخلها إلى البيت وأغلق الباب وعمّ سكون غريب المنطقة،توقّفت كلّ الأصوات إلّا صوت صراخها وإستغاثتها...
لقد كانت تتعرّض إلى ضربٍ مبرح ولكنّ صراخها هذه المرّة بدى مختلفا عن العادة.كانت فيه حُرقة ولوعة وكأنّ شيئا خطيرا قد حدث.
أسرع زياد إلى مركز الشرطة طلبًا للمساعدة،أمّا الأهالي فقد إتّفقوا على كسر الباب وإنقاذها من أخيها وزوجته القاسية وفعلا قاموا بذلك ولكن بعد فوات الأوان.
لقد كان جسمها الصّغيرة أضعف من أن يتحمّل تلك القسوة وذلك الإجرام الذي ولّدته الغيرة في قلب زوجة أخيها...
وأخوها كان ضعيف شخصيّة منقادٌ لزوجته لا يعصي لها أمرا ولا يكذّب لها قولا ،تحرّكه كدمية في يدها فيفعل ما توسوس به له.
قالت له أختك جلبت العار للعائلة فهي كل يوم تخرج مع المدرّس وتقضي معه كل وقتها...وملأت رأسه بأفكار شيطانيّة حتّى تمكّن منه الغضب فبالغ في ضربها وتعذيبها إلى أن فارقت الحياة.
رحلت بلسم القرية وتركت الجميع ينزف...
جاء زياد مع أعوان الشرطة فوجد حشدا من النّاس أمام منزل عائشة.
شقّ طريقه إلى الدّاخل وهو يتفحّص وجوه الموجودين بإستغراب،لِمَ يبكون؟
لِمَ هذه اللّوعة البادية على وجوههم؟
دخل مسرعا وقلبه ينتفض بين ضلوعه فرأى حبيبته ممدّدة على الأرض دون حراك. أصابه ذهول وصدمة شلّت حركته.فإرتمى عليها
وعبثا حاول إيقاظها ،حدّثها كثيرًا وناداها وذكّرها بوعودها له فقد تواعدا أن يعيشا بحبّ وسعادة معًا
بكى وانتحب وإتّهمها بالخيانة لأنّها تركته وذهبت. أغضبه هذا التّصرّف منها ورفض أن يتركها أو ينفصل عنها ولم يصدّق أنّها رحلت فوضع أذنه على صدرها في محاولة أخيرة لسماع دقّات قلبها.
كان الجميع واقفون يتأمّلون ما يحدث وقلوبهم تتقطّع حزنًا و ألمًا
على عاشقين فرّقت بينهما الأقدارولم تسمح لحبّهما أن يكتمل...
طال إنحناء زياد على جثة حبيبته
فبدأ القلق يساور الجميع
تقدّمت الخالة فائزة والدة زياد وحاولت رفعه ومواساته وما إن وضعت يدها على كتفه حتى سقط أمامها على الأرض مثبتًا بذلك أنّ حبّهما قد إكتمل وكأنّ الأقدار لم تفرّق بينهما بل كانت ترتّب لهما لقاءًا مختلفا، لقاءا أبديًّا بعيدًا عن
قسوة البشر.

             بهيجة بن موسى/تونس

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

ماللوطن... عبد الرزاق سعدة

سيد قلبي... ياس ياسمين

الحسود..خواطر بن قاقا