مجانين اليان… قصة الشاعر وليد علي العايش

- مجانين اليان -
--------- وليد.ع.العايش

حمل اليان سلاحه ، بندقية أصابها الخَرفْ ، شريط من الرصاص ، رمانة يدوية هجومية ، مَطَرةُ ماء ، كيس بلاستيكي صغير فيه بعض الطعام والشراب رُبّما أُصيبا ببعض العَفنِ , فقد مضى زمن ليس بالهين وهما في رُدهة الكيس المُهترئ ، ومالبث أن اِلتحقَ بالرتل المُغادر للموقع القريب من تلّةٍ شمطاء كعجوزٍ تسعينية .
كان شاباً في مُقتبل العمر ، طويلُ القامة ، أشقرُ الشعر ، أزرقُ العينان ، رقيقُ الشفتان ، خفيفُ الوزن ، ومع ذلك كانَ قوي البُنية ، اِشتهرَ بين رفاقه بِدقّةِ التسديد وإصابة الهدف .
هو من قرية بعيدة ، لم يعد يدري بأيِّ اتجاهٍ هي الآن ، تركَ هُناك والدته وشقيقته ذات التسعة أعوام ، أما والدهُ فقدْ مضى إلى حيث اللاعودة ... ذات يوم شتويٍّ قصَّ عليهم أحد رفاقه بأنّهُ قُتِلَ قُرْبَ نهر ( النيل ) بشكلٍ بَشعْ ، كان اليان وقتها في عامهِ الخامس عشر ، اِلتقفَ الكلمات وكأنّها مِطرقة دَقَّتْ رأسهُ بقسوة : ( سوفَ أنتقمُ لكَ يا أبي ) قالَ مُحدِّثاً نفسه ...
حثَّ خطواته المُتثاقلة خلف الرتل ، صرخ الرقيبُ : ( هيا ... هيا أيّها الجندي , يبدو بأنّكَ مُتعَب ... يجب أن نصلَ قبل الغروبْ ) ... رَمقهُ الشابُ بنظرةٍ ساخرة !!! لمْ يُعجبهُ كلامه , لكنّهُ اِنصاعَ للأمر ، فهنا ليس هناك مجالاً للتردد , وإلاّ فإنَّ طلقة واحدة تكفي للذهاب إلى الجحيم ...
المطرُ لم يتوقف في ذلك اليوم ، البوط العسكري يغوصُ في الوحل ، الأقدامُ تلتصقُ بالأرض ثُمَّ تنسلُّ بصعوبةٍ بالغةْ ، لاحتْ الشمسُ بشكلٍ خاطفٍ من خلف الغيوم السوداء ، شعرَ اليان بشيءٍ من الدفءِ ، وتابع مسيره كما خروفٍ يلاحقُ القطيع ، المشي هو السبيلُ الوحيد في هذا الجوّ البارد للتخلص مِنَ الصقيع ، تحوّلَ المطرُ إلى ندْفٍ مِنَ الثلج ، في ذات اللحظة زَعقتْ أصواتُ البنادق , علا أزيزُ الرصاص : ( اختبئؤا ... إنَّهُ كمين ... اسرعوا ) ، تبعثرَ الجنود بينَ الأشجار المُتراصة على جنبات الطريق , وفي حُفر هنا وهناك ، شاهدَ اليان أحدَ رفاقه يسقطُ كعصفورٍ قريباً منهُ ، لقدْ أصابتهُ رصاصة خرقاء في رأسه ، لا وقت أكثرَ للتفكير ، زحف على بطنهِ صوبَ حُفرةٍ مليئة بالمياه ، اِلتصقَ بها كما كان يفعلُ منذُ سنوات عندما يَحِنُّ إلى حُضنِ أُمّهْ ...
ساعة أو أكثر مرّتْ بطيئةً كالسلحفاة ، تسمَّرَ في مكانهِ من شدّةِ البردْ والخوف : ( هل سأموت أنا أيضا ) ... بعد أن توقف تنفس الرصاص لم يُشاهد أيّاً من رفاقه ، لقد بقي وحيداً هنا , مما زادَ من حُفنةِ الخوف المتجمهرة في قلبه ... : ( أين ذهب الجميع ... ماذا سأفعلُ الآن ) ، حاول أن يتبعَ خطوات الرتل لكنَّ أثار الأقدام تاهتْ تحتَ نُدَفِ الثلج ، سلكَ طريقاً فرعياً – فربما يكون العدو مازال متربصا في هذا الطريق ينتظر فلول الرتل - ولعلّهُ يجدُ فيه رفيقاً من رفاقه ، مائة متر أو أقل كانت كافيةً ليتعثرَ بِجثّةٍ زرقاء اللون ، لم يخَفْ منها ، فقد اعتادَ على هذا المنظر المُفزع ، جلس بالقرب من الجُثّة ، كانت لأحد رفاقهِ في الرتل ، تحسسَها من جوانبها المُختلفة ، لم يكن فيها أية آثار لرصاصةٍ أو طعنةْ ، ثغرها يرسم ابتسامة باردة ( لابدّ أنَّ جِينانْ ماتَ منَ البردِ والجوع ) , ردّدَ كلماته بصوتٍ مُرتعشٍ مسموع ...
فتّشَ في جيوبِ رفيقه ، عثرَ فيها على ورقة وقلم ، وفي الجيب الآخر وجدَ رسالة كتبها جينان إلى أخيهِ على الطرفِ الآخر منَ الجبهة ، قرأ الرسالة عدّةَ مرات ، انهمرَ الدمع من عينيه ، كان يُسابِقُ المطرَ الآتي من السماء ...
رمى بسلاحهِ جانباً ، شرب بعض الماء ، ثُمّ أمسك بالورقة والقلم وبدأ يكتبُ رسالةً إلى أُمّه ، ولم ينسَ شقيقته هُناك في القرية : ( أُتراهما ما تزالا على قيدِ الحياة ) لقد مرّت سنة ونصف الأخرى دون أن يعلم عنهما أيّ شيء ... شرَح لهنَّ حاله ، وكيفَ يُقاتلُ على هذه الأرض التي لا يعرف حتى اسمها، ختَمَ الرسالة بعبارةٍ كتبها بخطٍّ عريض : ( لماذا أنا هُنا ... من أجلِ مَنْ أُقاتل ... لِمَ سأموت ... لِمَ ماتَ الكثير من رفاقي ... هم يعيشونَ هناك في القصور ونحنُ نموتُ دونَ أن ندري ما السبب ... ) ... وقّعَ رسالتهُ ثُمّ طواها أكثرَ من مرّة : ( كيف سأرسلها ؟؟؟ )...
عصفتْ برأسهِ الصغير فكرة ما ، ترك كل شيء كان يحملهُ سوى كيس الطعام والشراب ، اِنطلقَ نحو جبل يُطلُّ برأسهِ من بعيدْ ، آهٍ ... قبلَ ذلك دسَّ الرسالة في جيبهِ الأيمن ...
( لابد أن أرى من قمّة هذا الجبل طريقاً يؤدي إلى قرية أو مدينة قبل حلول الظلام ) ...
ثلاثةُ أسابيع مضتْ منذُ تلكَ اللحظة ، رائحةُ الحرب التي حصدتْ ملايين الرؤوس لم تتوقف , بل كانت تزداد اشتعالاً وتحصد مزيداً من الأرواح التي لم يعد لها مكان على هذه الأرض , حكاياها تنتشر عبر الراديوهات الكبيرة الحجم , رائحة الدم طغتْ على مياه البحار ...
كانت الأمّ منشغلة بطهي طعام الغداء ، الكلب الصغير يقفزُ مُسرعاً ، فتحتْ الأمّ الباب ، كان اليان المُوحِلُ الوجه يقفُ هناك , اندفعت نحوه كسيلٍ آتٍ من علوٍّ شاهق , لكنه أبعدها بكلتها يديه قبل أن تصِلَهُ : (  إنّهمْ مجانين يا أماهْ ... كل مَنْ ماتوا مجانينْ ) نظر إلى قبر أبيه القريب من شجرة بلوطٍ كادت أن تبلغ المئة سنة : ( حتى أبي ... حتى أبي يا أماه ...    مجنون مثلهم ... ) ...
________
وليد.ع.العايش
24/9/2019م

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

ماللوطن... عبد الرزاق سعدة

سيد قلبي... ياس ياسمين

الحسود..خواطر بن قاقا