الحلم… مجموعة قصصية للكاتب بركات الساير العنزي

أبو مروان -بركات الساير العنزي
مجموعتي القصصية الأولى (الحلم)
ط- دار نوفا بلاس -الكويت-2012
الحلم ( 5 )
.....استمرت اللقاءات العاطفية في كل يوم أربعاء ، كنا نقضي الأمسية في الضحك والسرور والخروج في السيارة. وكل أربعاء له طابعه الخاص ، حيث يترك أثرا في نفسينا مما يجعلنا في شوق بالغ للأربعاء القادم. أحسسنا بمشاعر طفلين تنساب رقيقة هادئة صادقة ولكنها محرقة أحيانا كثيرة ولكن هذا اللقاء ترك أثرا عميقا في نفسي . بدأت أحس بخطورة اللعبة التي دخلتها ،وأحسست أن السباق مع أنوار لا يجدي سينهزم الاثنان من الحلبة ، إننا متفقان بالفكر والعقل . وهذا ماعقـّد العلاقة بيننا . كنت مدركا منذ البداية أن علاقتي معها لن تتعدى حدود الكلام واللقاء، وظننت أن ذلك يكفيني ، لكن عواطفي بدأت تتغلب على عقلي وأصبحت أسيرا لمشاعري الجياشة.
رحت أنتظر موعد اللقاء من بداية الأسبوع ، وأحس ببطء الوقت ومرور الأيام .. حتى يوم الأربعاء .. ما أطول المدة ! وما أقل زمن اللقاء! تأخرت أنوار عن موعد اللقاء .. لأول مرة تتأخر شعرت بتوتر شديد ، أردت أن أكلمها في الهاتف ولكن الجهاز مغلق ، ضاقت أنفاسي .
لابد أن شيئا حدث لها. هل أغادر المكان ؟ ساءلت نفسي . لا سأبقى أنتظرها حتى نهاية السهرة. اقترب مني رجل كبير في السن يبدو عليه الوقار ، قدرت عمره بالستين ، ألقى التحية كأنه يعرفني حق المعرفة ، فرددت التحية وطلبت منه الجلوس فجلس غير ممانع.ثم بادرني في الكلام وقال :
أراك قلقا متوترا . على غير عادتك . (لا حظ تغير ملامحي واكفهراري) ثم تابع كلامه موضحا، هذا ما لاحظته وأنا أراقبك منذ أن جلست ، لقد شربت القهوة أكثر من مرة و تكاد لفافة التبغ لا تفارق يديك . لا بد أن صديقتك قد تأخرت عليك . -(ولكن الغائب وعذره)- ربما هناك سبب منعها من الحضور ، وأنت تجلس على جمر من النار . إنها أحوال العاشقين . قلت له بانفعال وتوتر :
-هل تراقبنا أيها الشيخ ؟ ! ومن أعطاك الحق بذلك ؟
- مجرد تخمين وإحساس لا تغضب . اسمح لي بالكلام والتدخل في خصوصيتك الحقيقة تلمع في عينيك ، أكاد أسمع دقات قلبك كعزف جنائزي . ولا تنس أن هذا المكان عام يجلس فيه الجميع . وأنا من الملازمين لهذا الكلام . أجل أنتظر عودتهم سيعودون في يوم ما . ألا توافقني الرأي ؟ إحساسي يطمئنني بذلك .
قلت في نفسي الرجل فقد عقله يتكلم كلاما غريبا لم أقاطعه، شعرت أنه ينتظر وهما في حياته. لكني استشطت غضبا من الرجل الكهل العجوز ، وزادني غضبا عندما راح يضحك بسخرية وأردت أن أطرده ولكنه تدارك الأمر وقال : لا تغضب ، ماذا يقول المثل ؟
يقولون : اسأل مجربا ولا تسأل طبيبا. لا تثق بهن ولو كن ملائكة .
وأنا مجرب وأنت متدرب .جديد على الحب وعلى غزل النساء وهذا ما أحكم عليه من خلال شغفك واضطرابك . أقضي أغلب العطل الأسبوعية في هذا المكان وحيدا لغاية في نفسي .
-وجدت نفسي مجبرا لسماع الرجل ، لعلي أخفف من قلقي على أنوار . ورحت أستمع للشيخ الذي راح يعبر عن عواطفه دون استئذان مني ،كأنه أراد أن يكلم البحر. إن سمعت له كلمني وإن شردت كلم البحر. وشعرت بحديثه ينساب من قلبه انسياب الماء من النبع .ناجى أولاده فردا فردا .. يسألهم عن مكانهم من خلال مناجاته عرفت أن أولاده كانوا ثلاثة ، أسرت البنت مشاعر الرجل العجوز حتى كاد يفقد عقله ..
عرفت من خلال حديثه أن أولاده ذهبوا مع أمهم الأمريكية إلى أمريكا ولم يعودوا ينتظر عودتهم أكثر من عشر سنوات ،ولكن الأولاد نســوه، وبقي وحيدا يعيش على ذكراهم.
كل أسبوع يقابل البحر، البحر يوصله إلى قلوبهم .. كان متعطشا لرؤيتهم أشبه بالناقة التي فقدت حوارها .ثم راح يثرثر مع نفسه ويكلم أوهاما غير موجودة ، أشفقت على الرجل المسكين ثم تركني الرجل وحيدا،وتخيلت أنوار أمامي، ورحت أناجيها كأنها أمامي فقلت لها :
... في جزيرة نائية بعيدة عن العالم كان رجلا يعيش هناك أحب امرأة في الأوهام صنع صورتها بنفسه ، وأبدع في رسم ملامحها . اختارها من بين كل تلك الأوهام ، لم يكن اختياره لها لأنها الأجمل من بقية النساء ، ولا لأنها الخيال المبدع الذي اقتحم حياته صدفة ، ولكن لأنها قد استطاعت أن تخترق كل الجدران الصامتة ، التي أحاطت بقلبه ، وأن تصل إلى الميناء المغلق منذ عشرات السنين . لقد اقتحم الوهم المرافئ الحزينة ليحطمها وينثر أشلاءها على شواطىء الجزيرة النائية . لا تقاطعيني يا أنوار ، أريد أن أكمل ولكنها قاطعته بالكلام وقالت :
كأني أراك تكلم نفسك وتتجاهلني ، لا تكابر لقد صلبتني على جذعك ، وجعلتني في عنقك كترانيم وتراتيل . وإن كنت لا أعرف أين سيمضي بي المحمل ؟ !ولكنني صرت الكلمة الهامة في قاموسك ومن الصعب عليك أن تمحو جذري .كان كلامها كالإعصار .
شعرت بحدة أنوار في كلامها ،ومن الأفضل لي أن أنسحب بهدوء , لملمت بقايا القلب المحطم الكسير . وكان لا بد من توديع أنوار ، تحاملت على نفسي ومددت يدي لأصافحها. وقلت أستودعك الله يا أنوار وأوصيك بنفسك .. لم تمد يدها ولكني رأيت الابتسامة ترتسم على شفتيها. كان جرس هاتفي يرن بقوة .. نظرت إلى الرقم على شاشة الجوال ، كانت أنوار على الخط .. يا إلهي ! ومن هي تلك التي كنت أكلمها ؟ أحسست بدوار في رأسي . رددت على المكالمة ، نعم يا أنوار ..قالت : أريد أن تعذرني عن تأخري لأن أبي في المشفى وهو بحالة محرجة.
شدني الصوت الحنون ، أردت أن أقول لها : اتركيني ... وداعا ، لكنني لم أجرؤ فقد خانتني شجاعتي ، تصبب العرق من جبيني بغزارة ، إلا أنني حافظت على هدوئي .كان عليّ أن أرتشف آهاتي لوحدي وعلى مهل . العواطف تثقل كاهلي صحت على النادل : أيها النادل جهز المكان ليوم الأربعاء القادم .

📷

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

ماللوطن... عبد الرزاق سعدة

سيد قلبي... ياس ياسمين

الحسود..خواطر بن قاقا