زينب… قصة للكاتب وليد .ع.العايش

_ زينبْ _
______ وليد.ع.العايش

ارتدت زينب ثوبها الأسود مُبكراً ، حملت بعض الماء وباقة وردٍ كبيرة ، كان أطفالها الثلاثة مازالوا يغطون في نوم عميقٍ هذا الصباح ، بينما تكبيراتُ المُصلّين تخترقُ أشعةَ الشمس الأولى ...
صبيّةٌ في مُقتبل العُمر ، سمراء ك تُربةٍ خصبة ، لم تدع الجمالَ يمرُّ من بابها ، أسَرَتْهُ واقتادتهُ إلى حُجرها .
منذ سنة أو أقل كانت تعيش في هذا البيت مع زوجها ، لم يكن هناك ما يشي بأمر غير اعتيادي , الحياة تنقلبُ يوماً إثر يوم على حالها , فجأة ودون سابق إنذار خرج الزوج ولم يعد ...
انتظرت أياماً عديدة لكن الحال لم يتغير ...: (هذهِ لكِ يا زينب) , دفع لها الرجلُ المُلتحي بورقةٍ مائلةٍ للاصفرار ، وبِظرفٍ فيه مبلغ من المال ، قرأت شهادة وفاة زوجها ، لمْ تكن لِتُصدّقَ عيناها : ( أين زوجي أيّها الرجل ... با لله عليكَ أينَ زوجي ) ، نظر إليها وهو قاطبٌ لحاجبيه ، زمّ شفتيه ، ثُمّ غادرها دونَ أن يُجيبْ .
مازالت ذكرى ذلك اليوم تطرقُ رأسها الجميل، سألها أحد أطفالها عن أبيه (كان المدلل  لديه) ... متى سيعود، لماذا اختفى فجأة، أجابته بدمعةٍ باردة , لكنها بقيت على صمتها الذي تجاوز عمره العقد من الزمن .
إنّهُ صباح العيد ، لا بُدّ أن تزورَ المِقبرة ، وتزورَ قبرَ زوجها ( الافتراضي ) هناك , هي من صنعتهُ ذات يوم بعدما أصابها اليأس ، ستقرأ الفاتحة ، وتدعو الله أن يجمعها به عندما تسافر بلا تذكرة عودة ، وأنْ يغفرَ لهُ .
كانت الدرب موحلةً جداً ، والمِقبرةُ كانت كذلك ، لكنّها لم تأبهَ بكل هذا ، فلقدْ دنتْ روحها كثيراً من ذلكَ القبر ( المفترض ) , المسوّر بحفنة من الورد الأحمر .
حضرَ هناك كلَ شيء ، زرعت الورود مُجدداً على رأس الزوج القابع هنا : ( رُبّما ) ... بكتْ كثيراً , لم يسمع أنينها إلاّ هي ، مِنْ حولها الكثيرات من النسوة أيضاً ممن فقدنَ بعض الأحبة ، نادتْ عليهِ :           ( أجبني يا راتبْ ... هل أنتَ هنا ... أجبني)، لكنَّ الصدى وحدهُ يأتي بعدَ صوتها المبحوحْ .
عليها أنْ تُغادر، فقد خرج المُصلون منَ المسجد، سوفَ يأتونَ إلى المِقبرة، ويجبْ ألاّ تكونَ النسوة هُنا عندما يصلون .
لثمتْ رأسَ القبرِ بثغرها المُجمّر ثُمّ مَضتْ مُكرهةً ... (هل رأيتِ أبي يا أماهْ؟) ، اقتربتْ منَ طفلها الصغير المُدلل لدى أبيه : ( نعم ... نعم يا ولدي لقد رأيتهُ ، إنُّهُ يُهديكَ السلام ) ... (ولماذا لم يأت معك ... اشتقتُ إليهِ كثيراً يا أمي)، خيّمَ الصمتُ عليها هذه المرّة، أمطرتْ السماءُ فجأة، لمعتْ عينا الطفل، تركَ والدتهُ وجرى باتجاهِ المِقبرةْ ...
سنةٌ أخرى تمرُّ وكأنّها أيام قليلة، لم يتبدل شيء كثير في حياةِ زينبَ وأولادها الثلاثة، رِهانها على الزمنِ كانَ خاسراً جداً، فالمِقبرةُ مازالتْ في مكانها , وذلك الراعي الأحمق لم ينسْ أن يزورها مع أغنامه كي تلتهم تلك الورود التي زينت رؤوس القبور ...
جهّزتْ أشياءها مُنذُ المساء، فيوم غدٍ لقاء جديد مع زوجها الذي خرج ولمْ يعدْ، كان الفجرُ يرسمُ خيوطهُ الأولى، كما يفعلُ العنكبوت عندما يزور مكاناً لأولِ مرّة , لم يكن المطر حاضراً هذا الصباح ، فاختفى الوحلُ أيضاً معه .
مع أول خيط أبيض حملت ما جهزتّهُ ليلَ أمس واتجهتْ نحو الباب، كانت دموعها تسابقها إلى هناك , ساقاها الجميلتان تتعثران في المسير , الطفل المُدللُ يصرخُ عليها كي تنتظره ( سوف أذهبُ معك ... أريد أن أرى أبي ) , الراعي يتربصُ بالزائرين حتى يغادروا , صوتُ نايٍ آتٍ من ضفة النهر القريب .
عندما فتحت زينبُ البابَ لتخرج صوب الدرب الجاف , شاهدتْ رجُلاً ( ما ) يقفُ أمامها ، لحيةٌ كثّةٌ طويلة ، شعرٌ أشعث مَنكوش كسنابل حنطة داهمتها الرياح ، جسدٌ يكادُ يخرُّ نحو الأرض ... نظر إليها وهي في دهشتها تَسْبَحُ نحو السماء: ( إلى أينَ يا زينبْ ... إلى أين !!! ) ...
________
وليد.ع.العايش
25/8/2019م

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

ماللوطن... عبد الرزاق سعدة

من بين الامي..علي اسماعيل الزراعي

خذني اليك... علي اسماعيل الزراعي