الجزمة… قصة للأديب وليد علي العايش

_ الجزّمةْ _
_________ وليد.ع.العايش

كم كان موحلاً هذا الصباح ، فالمطر لم يصعد إلى السماء منذ ساعات الليل الأولى ، مما جعل طيور السنونو تختفي خلف أكمة لا جدار لها ، بينما خرجت المرأة إلى تنورها حافيةَ القدمين بعد أن شمرّت بقايا ( بيجامة مهترئة ) .
 استيقظ الزوجُ على أنغام موسيقى المطر وهي تطرق نافذته الصغيرة ، كان عارياً تماماً ، لعلّهُ لم يكترث كثيراً للبرد الآتي من الجهة الغربية ، نظرَ إلى السرير ، لم تكن المرأة هناك : ( يالك من امرأة ... كيف تغادري دون أن تُخبريني ) ... اِرتدى ثيابهُ المُتناثرة في أرجاء الغرفة ، تحسسَ شعرهُ المائل للبياض ، تمطّى كريحٍ عاصفةْ ، ثُمّ قفزَ إلى الأسفل ...
في الغرفة المجاورة يرقدُ أطفالهُ الثلاثة ( ولد وابنتان ) ، لم يشأ أن يُزعجهم ، فالوقت مازال باكراً       ( دعْهم ينامون أكثر ... ليس لدينا مدفأة ... إن استيقظوا سينال منهم البرد ).
للتوّ حطّتْ رحالها رائحة الخُبز ، لعقَ شفتيه الغليظتين ، توجّه إلى التنور ( الدفءُ يثورُ منه كرائحة الخبز ) ... تناول رغيفاً وبدأ يلتهمهُ على معدةٍ خاوية ، كانت المرأة تراقبه رغم انشغالها بما تبقى من العجين : ( كانت ليلة جميلة يا امرأة ؟ ... أليس كذلك ) ... ضحكَ كثيراً حتى كادَ أنْ ( يتشردق ) بالخبز الطازج ، احمرّتْ وجنتا المرأة أكثر ، لكن ليس من وهج نارِ التنور هذه المرة ... تركتهُ يُكمِلُ ضحكه وطعامه اللذيذ ، لكنهُ غادرها فجأةً دون أن ينبس بكلمةٍ أخرى .
الماء المُوحل يخترقُ ( جزمته السوداء ذات العنق الطويل ) ، ألقى التحية على جاره الذي خرج هو الآخر مع ثُلّة أغنام قاصداً المرعى البعيد : ( لم أسمع موالك هذا الصباح يا جار ... يبدو بأنَّ ليلتك لم تكن على ما يرام ) ... ضحكَ الاثنان ... ثُمّ انصرف كل منهما في اتجاه : ( سنلتقي في السهرة ياجارررر ... ) قال الرجل الآخر بصوتٍ مرتفع , نظر إليه بطرف عينه موافقاً واستمر في طريقه : ( متى سأشتري جزمة جديدة ؟؟؟ ) , كان يُحدّثُ نفسهُ دون أن ينتبه إلى نبرة الصوت العالية .
 توقف المطر ، انقشعت الغيوم , فظهرت الشمس مُختلسةً الوقت ...
سألَ أحد الأولاد : ( أين أبي يا أماه ) ، اومأت نحو الحقل البعيد ، لم يُكرر السؤال ، لبس مِعطفاً رثّاً    ( كان لأبيه ذات يوم ) ، حمل زوادة من الخبز والجبن والزيتون : ( سأذهب إلى هناك يا أمي ) .  مضى النهار مهرولاً ، النهار قصيرٌ جداً في الشتاء ، منذ قليل عادَ الجارُ مع أغنامه ، نظرتْ المرأة إلى نهاية الطريق الذي بدأ يتخلّصُ مِنَ الوحل : ( أين هما ... لقد تأخرا ) .
اتجهت إلى بيت الجار : ( ألم تُصادف زوجي وولدي في الطريق يا أبو ... ) ... كان يزيلُ الوحلَ المُتشبث بقدميهِ : ( لا لمْ أُشاهدهما ... لِمَ لمْ يعودا حتى الآن ) ... قبلَ أن تُجيبَ المرأةُ على سؤال جارها لاحَ ظِلُّ الولد من بعيد : ( ها هو ابني هناك ... يبدو وحيداً ) ... توجهتْ العيون الأربعة إلى حيث الولد الآتي من الحقل البعيد : ( أينَ أبيكَ يا بني ) ... دفع لها بالجزمة السوداء وبقي صامتاً , كررت سؤالها مرّة أخرى بينما شيءٌ ما اندسَّ في قلبها .
في تلك اللحظة هزّ المرياعُ رأسه فتعالى صوت الجرس المربوط بعنقه , نظر الشابُ إليه , ثُمَّ إلى القطيع المتراكم على بعضه البعض : ( لعلّهُ هناك يا أمي ... لعلّهُ هناك ... لا عليكِ لقدْ أصبحتُ رجلاً ) ...
 ________
وليد.ع.العايش
16/9/2019م

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

ماللوطن... عبد الرزاق سعدة

من بين الامي..علي اسماعيل الزراعي

خذني اليك... علي اسماعيل الزراعي