وفاء بغل…. قصة للاديب عز الدين ابو صفية

قصة قصيرة ...

 وفاءُ  بَغْل  :::

شحدة رجل عفي قوي البنية ذو عضلات مفتولة و صدر ومنكبين       عريضين طويل القامة عصامي شهم يعتمد في كل امور الحياة على نفسه و لم يذكر يوما أنه تشاكل أو تشاكس مع أحد من جيرانه ، كان محبوبا من الجميع لأنه يخدم الجميع و يتفانى في ذلك لم يشتكِ يوماً من أحد رغم أن كثيراً من الأمور لم تَرق له ، لم يحالفه الحظ في التعلم و بقي رجلاً أمياً واعياً جداً لأمور حياته لا يهتم بأمور و قضايا السياسة لأن له شأن يغنيه عن كل الاهتمامات الخارجة عن محيط دائرة أهتماماته وحياته الاجتماعية و الحياتية ، لأن قلبه  مملوء بحبه للبغل خاصته .
كان كل اهتمامه بعمله الذي عشقه و الذي يمارسه بيده و هو عمل       قاسٍ حيث كان يعمل عتالاً يرفع على ظهره الأحمال الثقيلة التي يعجز غيره عن حملها و يقوم بتوصيل الى منازل من يستأجرونه لذلك .
كان حريصاً على المحافظة على كل قرش يتحصل عليه كأجر عن هذا العمل ، لم يكن يعرف شيء عن بذخ الحياة و ترفها و لم يكن يمتلك ملابس كثيرة أو جديدة و لم يُشاهد عليه ذلك حتى في المناسبات و لكنه كان نظيفاً يغتسل كل يوم بالماء البارد بعد عودته من العمل الذي كان يمارسه مع بزوغ الفجر حتى اقتراب الشمس من الغروب ، و عند عودته للمنزل يقوم بتنظيف منزله غير المحتوي على أثاث كثير وكان يقوم بأعداد طعامه البسيط بيده و لم يكن طعامه هذا يتجاوز بعض الخضروات المسلوقة و بعض قطع اللحم أو الفراخ التي يشتريها يوم الجمعة فقط .
لم يكن اهتمامه كثيراً بزوجته البسيطة صادقة المشاعر و كثيرة  الاحترام له و تتفهم وضعه النفسي و السلوكي و تطيعه و تنفذ كل ما يطلبه منها أو يحتاج لها أن تقوم به ولكنه كان يُكن لها كل التقدير والاحترام .
في أحد صباحات يوم من أيام الجمعة كان قد استعد للخروج من المنزل سألته زوجته عن وجهته لم يجبها ولكنه ارسل لها ابتسامةً من ابتساماته النادرة فأدخل السرور لقلبها ودعت له دعاءاً طيباً ثم انصرف.
لم يكن شحدة يرغب بالذهاب إلى قضاء أي مصلحة إلا سيراً على الأقدام وأثناء سيره كان يمر به العديد من وسائل النقل ولم يكن يجذب انتباهه غير العربات  الخشبية البسيطة ذات العجلتين وذراعين خشبيين ويقوم بجرها بما تحمله صاحبها مما يجعلها تخفف التعب عنه ، مر العديد من العربات الأكبر والتي كان يجرها الحمير أو البغال وتكون أكثر اتساعا للأحمال ، كان شحدة قد قرر تغيير بل تطوير أسلوب عمله من عتالة الأحمال على ظهره لحملها على أحد الكارات الخشبية ، فقرر الذهاب لسوق الحيوانات لشراء واحدة منها لاستخدامها في توصيل الأحمال لتخفف من تعبه وليزداد دخله من وراء ذلك .
جاب شحدة كل أرجاء السوق أكثر من مرة وجلس على صخرة صغيرة هي بمثابة مربط للحيوانات فجذب انتباهه ذاك البغل العفيّ ضخم القامة قوي البنية شامخ يقف بزهو وافتخار أمام عربة خشبية جيدة وكبيرة وقد تم ربطه بالسرج والأحزمة المخصصة لذلك ، نهض بسرعة وتوجه نحو البغل ولمس جبينه ومرر يديه على ظهره وقوامه وتحسسه جيدًا فشعر بأنه قد وجد ضالته فقرر شراؤه .
عاد شحدة راكباً العربة ويجرها البغل الذي كان مطيعاً ودوداً ، مر شحدة بشوارع وأزقة الحي الذي يقطنه فانهال عليه كل من شاهده بالمباركة له على هذه الخطوة الجيدة وأكدوا له أنهم سيظلون يتعاملون معه لنقل أغراضهم وتوصيلها ، كان السرور والفرح باديان على الوجه الجديّ لشحدة إلى أن وصل الى منزله وعلى الفور قام بتوسيع باب المنزل ليتسع لدخول البغل وخصص جزءاً من البيت مكاناً لبيات البغل ، دهشت زوجته وباركت له وبدأ يسرد عليها مهام عمل جديدة لها ، كيف تجهز الطعام للبغل وكيف تقدم له الماء  والأوقات المحددة لذلك فلم تخالف له طلبا .
بدأ شحدة حياة جديدة  فقرر أن يكون مجال عمله ليس في الأسواق بل عند مراكز توزيع المساعدات التموينية التي تقوم بصرفها للعائلات المحتاجة مؤسسة الأونروا ( مراكز التموين ) والتي كانت تقدم كميات كبيرة من شوالات الدقيق ومختلف البقوليات والمعلبات والزيوت النباتية وغيرها من الأصناف التموينية.
ابلى شحدة بلاءاً رائعاً في عمله وتفانى فيه وكان لا يرفض طلباً لأي أحد ولا يعترض على المبلغ الذي يُدفع له رغم أنه قد حدده بقرشين عن كل شوال يقوم بتوصيله .
استمر شحدة بهذا العمل وفي كل مرة يملأ العربة بمكيات كبيرة من الأحمال تصل إلى أرتفاع مترين أحياناً قاصداً بذلك الحصول على أعلى قدر من القروش ، لم يتذمر البغل بل كان سعيدًا وهو يجر العربة بكل تلك الأحمال ولم يضايقه ذلك فكان إن مر بشوارع ترابية أو يشعر شحدة بأن البغل بدى عليه التعب كان يقوم بمساعدته بقوة ويدفع معه العربة للأمام بل كان يقوم أحياناً برفعها من مؤخرتها ومن ثم دفعها للأمام ليمنع انزلاق عجلاتها في التراب الذي يملأ الشوارع .
مرت أشهر وسنوات أصبح شحدة أكثر سعادة وحباً لعمله وللبغل الذي انتقل بسببه لحياة أفضل فكان يحافظ على البغل ويقدم له أشهى الوجبات من (تبن وشعير) وبعض قوالب السكر الصغيرة يلقمها بين شفتيه فكان شحدة يشعر بسرور البغل الذي كان يظهره لشحدة وهو يحاول الاحتكاك به وملامسة وجهه بشفتيه ويداعب يداه بلسانه وكأنه يطالبه بالمزيد من قوالب السكر فيلبي شحدة له هذه الرغبة ، كما اهتم شحدة بنظافة البغل فخصص مساحة أمام منزله ليمارس البغل رغباته فيها بعد التعب حيث يقوم شحدة بتجريده من كل القيود والأربطة ويتركه في تلك الساحة الرملية حتى يتمدد فيها ويتقلب على جنبيه وظهره عدة مرات وكأنه يغتسل من التعب والعرق ويتخلص من كل الحشرات ومن كل ما علق بجسده من فطريات وطفيليات .
كان منزل شحدة لا يفصله عن شاطيء البحر سوى أمتار فقرر أن يقوم باصطحاب البغل صباح كل يوم جمعة إلى الشاطيء ويسير إلى مسافة تبعد عن المكان  الذي يستخدمه الأطفال للسباحة ويُدخل البغل إلى عدة أمتار إلى داخل مياه البحر حتى تصبح المياه تغمر ظهره فيقوم بتنظيفه بفرشاة كان قد اشتراها خصيصا لذلك وكان بيديه يدلك له رقبته وسيقانه وعضلات صدره وظهره وكان شحدة يشعر بانتعاش البغل بذلك ويصدر أصواتا يفهمها شحدة جيداً فيقوم بملاعبته وسؤاله مبسوط يا صاحبي ويحدثه عن خطط عمله في اليوم التالي وكان يشعر بأنه يفهمها وينفذها.
نشأت علاقة صداقة ومحبة وعشق بين شحدة والبغل الذي كان بنزعج لغياب شحدة عنه ويصدر أصواتا وكأنه يناديه لاشتياقه له ، فيذهب شحدة اليه في منتصف الليل ويتحسس جسمه ويداعبه فيهدأ البغل ثم يغادره شحدة  إل مخدعه ينتظر يوم عملٍ جديد .
مرض شحدة وقَلت زيارته للبغل ولم يعد شحدة يصطحبه للعمل فاشتد به المرض ولم يعد يقوى للذهاب للعمل ، مرت ثلاث أسابيع والبغل لم يتقبل أحداً حتى زوجه شحدة فعندما كانت تذهب لتقديم الطعام له فيبدأ بإصدار أصواتاً حزينة ويرفس بقدميه الخلفيتين الباب والجدران وكأنه يريد شحدة.
علم شحدة بحال صديقه البغل فطلب من زوجته مساعدته للذهاب إلى مكان      البغل وما أن شاهد البغل شحدة وإذ به يصدر أصواتاً كصهيل الحصان ويرتفع بجسمه على قدميه الخلفيتين وأخذ ينفض جسمه ويهز رأسه وكأنه يرقص فرحاً لمشاهدة شحدة ، اقترب شحدة منه وهو لم يقوَ على الوقف محاولًا أن يلمس جبين البغل بكفه فبادره البغل بمداعبة كفه بشفتيه وكأنه يقبله .
لم يكن يدرك البغل بأن تلك آخر زيارة لشحدة الذي أقعده المرض تماما ولم يقوَ على التنفس ولم تُفلح جهود الطبيب في علاجه وكأن قدر الله قد أتى .
مع غروب نجم ذلك اليوم أسلم شحدة الروح لبارئها ، صمت غريب خيم على المنزل وسكون غير طبيعي حام حول حظيرة البغل وفي الصباح أحضرت زوجة شحدة كأساً من الشاي لتقدمه له  ولكنها صدمت عندما شاهدته على السرير وظنت بأنه نائم ، حاولت أن توقظه وهي تناديه بأسمه ، فلم ينطق بأي كلمة ، رفعت يده فسقطت منها الى جواره وأيقنت أن الله قد توفاه .
أخبرت أبناءه وقرروا دفنه في المقبرة القريبة من الحي الذي يقطنه .
أنهوا مراسم تغسيل الجثة وتكفينها لأخذها على عربة البغل لتوصيلها إلى المقبرة.
كان البغل هادئاً هدوء الحزن وكأنه كان بحاسة الحدس يشعر بأن صديقه شحدة قد فارق الحياة ، كان الحزن بادياً على وجهه وعيناه فانصاع لجميع تعاليم أبنائه فاصطحبوه إلى خارج حظيرته ووضعوه أمام العربة وجهزوه باللجام وأربطة العربة وهو لم يُبدِ أي عنف أو توتر وكأنه يعرف جيداً طبيعة المهمة التي سيقوم بها .
سارت جنازة شحدة تتقدمها العربة التي يجرها البغل وهو يخطو بقدميه خطوات بطيئة متثاقلة إلى أن وصلوا إلى المقبرة وتم دفن شحدة وانصرف الجميع ، وحاول أحد الأبناء العودة بالبغل إلى البيت ولكنه هاج وثار وهو يصدر أصواتا تشبه صراخ الحزين .
ألقى أحد أبناء شحدة عباءة والده على ظهر البغل فهدأ فعادوا به إلى المنزل وقضى البغل ليلته في حظيرته تلفه مشاعر الاكتئاب و الحزن .
مع فجر اليوم التالي كان البغل يفتقد شحدة فأخذ بالهيجان ورفس بقدميه الخلفيتين باب الحظيرة بقوة وكان صوته مرتفعا يشوبه الحزن فتمكن من فتح باب الحظيرة فانطلق مسرعاً نحو المقبرة وجلس بجوار قبر صاحبه شحدة ووضع رأسه على القبر وكأنه يناجي صديقه ، لحق به أبناء شحدة وبصعوبة أعادوه الى الحظيرة حيث تمدد على الأرض بهدوء ، أقفل الابناء باب الحظيرة وأحكموا اغلاق بابها وغادروا المكان.
لم يُسمع طوال الليل أي صوت للبغل ، وفي صباح اليوم التالي حضرت زوجة شحدة بقليل من التبين والشعير لتقديمه للبغل الذي طوال فترة مرض شحدة كان يرفض الأكل ، فتحت زوجة شحدة الباب فوجدت البغل كما تركوه أمس ممداً على الارض ويوحي شكله بالحزن والألم ، اقتربت منه ووضعت الشعير والتبن أمام فمه فلم يُبدِ أي اهتمام بالأكل فظنت أنه لا يريد تناوله حزنا على شحدة .
لم يحرك البغل ساكناً ... فقد فارق الحياة .

د. عز الدين حسين أبو صفية ،،،

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

ماللوطن... عبد الرزاق سعدة

من بين الامي..علي اسماعيل الزراعي

خذني اليك... علي اسماعيل الزراعي